ملخص
ما دلالة إصدار البابا فرنسيس سيرته الذاتية في حياته على عكس البابوات السابقين؟
لعل البابا فرنسيس، بابا روما، بات يعد من أكثر الباباوات إثارة للجدل في القرن الـ20، هذا إذا استثنينا البابا بيوس الـ12، الذي تعرض ولا يزال لهجمات تاريخية قاسية حول شخصه وقراراته خلال الحرب العالمية الثانية.
جاء فرنسيس من بعيد، فللمرة الأولى يختار مجمع الكرادلة بابا من أميركا اللاتينية، بعيداً من أوروبا وإيطاليا التي عادة ما ينتخب منها البابا بصورة تقليدية منذ نحو ألفي عام.
منذ عام 2013، حين وصل فرنسيس إلى السدة البطرسية (نسبة إلى القديس بطرس، كبير رسل السيد المسيح)، وهو لا يكف عن الحركة والتغيير، وإثارة الماء الراكد في دوائر التفكير، مما جعله محبوباً ومرغوباً عند ملايين، وربما مكروهاً من ملايين أكثر من المؤمنين المحافظين.
اتهم فرنسيس أكثر من مرة بأنه "بابا شيوعي"، وقال عنه بعضهم الآخر إنه صديق العرب والمسلمين، بأكثر منه بابا للكاثوليك.
تناول الرجل في حبريته التي تبلغ الآن 11 عاماً، عدداً من القضايا الشائكة التي تحفظ سلفه عن الاقتراب منها، مما جعله كمن يضع يديه في عش الدبابير، وتعرض من جراء ذلك لأكثر من هجوم قاس.
بلغ الأمر في العامين الأخيرين حد مخاوف من تغييب فرنسيس عمداً، رفضاً لتوجهاته الفكرية، وإن كان الجميع يدرك أن آراءه الشخصية ليست ملزمة لعموم المؤمنين، ما دام أنها شخصية، وليست مجمعية، أي أنها ليست من إجماع أساقفة الكنيسة.
أكثر من مرة في العامين السابقين، أدخل فرنسيسس إلى المستشفى لإجراء جراحات في المعدة، وفي كل مرة كان الجميع يتوقع أنه سيقدم استقالته بمجرد خروجه من غرفة العمليات، أو ربما أنه قدمها بالفعل للشخص المسؤول قبل أن يغادر القصر الرسولي في حاضرة الفاتيكان.
غير أن المفاجأة تتمثل في أنه يعود أكثر همة ونشاطاً، متكئاً على عصاه أول الأمر، قبل أن يتحول المشهد إلى سيره عبر الكرسي المتحرك.
ما الذي يريده صاحب الثوب الأبيض، هذا الرجل النافذ لدى مليار و400 مليون كاثوليكي منتشرين حول العالم، في ست قارات الأرض.
لماذا الحديث عن فرنسيس من جديد في هذه الأيام؟
"الأمل" سيرة ذاتية غير متوقعة
هذا هو سبب الحديث... صدور السيرة الذاتية للبابا فرنسيس، التي تحمل اسم "الأمل"، وفي توقيت مثير كالعادة في كل شؤون هذا "الفقير" وراء جدران الفاتيكان.
جرت العادة ألا يكتب الأحبار الرومانيون سيرتهم الذاتية في حياتهم، إذ تركوا هذه المهمة لخلفائهم الآتين من بعدهم، ولحكم المؤمنين الكاثوليك عليهم، الذين قد يرون أن بعضاً من هولاء الباباوات يستحقون لفظة "قديس"، وليس مفاجئاً أن بعضهم الآخر عرف بكونه "إبليس"، وتاريخ ألفي عام من السدة البطرسية، أي تاريخ الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، حافل بهذه الأنباء.
قبل أيام معدودات أعلنت دار "بينغوين راندوم هاوس" أن البابا فرنسيس كتب سيرته الذاتية، وسينشر كتاب "الأمل" عالمياً في منتصف يناير (كانون الثاني) من عام 2025.
هل هذه أول سيرة ذاتية للبابا؟ من الواضح أنه قدم من قبل كتاباً آخر عن ملامح من حياته، لكن هذا الكتاب هو الأكثر عمقاً وتأصيلاً لمختلف مراحل حياته.
على مدار ست سنوات، عمل فرنسيس مع المؤلف المشارك، المختار من جانبه، الناشر الإيطالي "كارلو موسو"، وكانت الخطة الأصلية أن ينشر الكتاب بعد موت فرنسيس، لكن قراراً سريعاً من "خليفة بطرس"، جعله يخرج إلى العلن في هذا التوقيت، لا سيما أنه سيكون مواكباً لما يعرف باسم "عام اليوبيل".
يتناول الكتاب قصة حياة البابا فرنسيس، من جذوره الإيطالية وهجرة أجداده إلى أميركا اللاتينية، إلى طفولته ومراهقته واختياره للرهبنة، مروراً بحياته كشخص بالغ، ويغطي كامل فترة بابويته حتى يومنا هذا.
في سرد ذكرياته بقوة سردية حميمية، والتأمل في مشاعره الشخصية، يتعامل البابا فرنسيس بلا هوادة مع بعض اللحظات الحاسمة في بابويته، ويكتب صراحة وشجاعة عن بعض الأسئلة الأكثر أهمية وإثارة للجدل في عصرنا الحالي، بحسب تعبيره.
يصف فرنسيس هذا العمل بالقوله إن "كتاب حياتي هو قصة رحلة أمل، رحلة لا أستطيع فصلها عن رحلة عائلتي وشعبي، وشعب الله كله، في كل صفحة، وفي كل مقطع، هو أيضاً كتاب أولئك الذين سافروا معي، وأولئك الذين سبقوني، وأولئك الذين سيتبعوني".
اعتبر فرنسيس أن سيرته الذاتية ليست قصته الخاصة، بل هي الأشعة التي يحملها معه، منذ أن بدأ رحلة حياته مغامراً".
بيرغوليو الأب... والهرب من الفاشية
لم يكن لكثيرين أن يتخيلوا دورة عجلة الزمن إلى الحد الذي يأتي منه بابا للكنيسة الرومانية الكاثوليكية من قارة أميركا اللاتينية، إذ درجت العادة أن يكون البابا إيطالياً (نحو 200 بابا كانوا إيطاليين)، غير أن اختيار كاردينال بولندا "كارول فوتيلا" (يوحنا بولس الثاني) في عام 1978، كسر هذه القاعدة بعد نحو خمسة قرون، فأضحى أول بابا من دولة أوربية شرقية، ثم جاء من بعده البابا الألماني "جوزيف راتزينغر" (بندكتوس الـ16)، وها هو "خورخي ماريو بيرغوليو"، يحل لاحقاً في السدة البطرسية.
في الـ17 من ديسمبر (كانون الأول) من عام 1936 كان المولد في العاصمة الأرجنتينية بوينس أيرس لعائلة مكونة من خمسة أطفال، هو الأكبر فيها، الأب "ماريو خوسيه بيرغوليو" المهاجر الإيطالي الأصل، ووالدته "ريجينا سيفوري ماريا" الأرجنتينية الجنسية، الإيطالية الأصل كذلك، وكلاهما "الأب والأم" هربا من إيطاليا في زمن الحكم الفاشي، الذي ساد في ذلك البلد لفترة من الزمن.
جذور البابا بوصفه ابناً لعائلة مهاجرة، سيقدر لها لاحقاً أن تشكل طريقة تفكيره في واحدة من أهم الإشكالات التي قابلتها أوروبا في الأعوام الأخيرة، وهي الهجرة والمهاجرون، وعلى نحو خاص من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
بعث "بيرغوليو" ذات مرة من عام 2017، برسالة إلى اجتماع "تيد 2017" الملتئم في فانكوفر بكندا تحت عنوان "المستقبل هو أنت"، عبر تسجيل مصور قال فيه "إن وجود كل واحد منا يرتبط بالآخرين"، فـ"الحياة ليست وقتاً يمضي بل وقت لقاء".
يومها تابع "إن لقائي أو إصغائي لمعاناة مرضى ومهاجرين يواجهون صعوبات جمة في البحث عن مستقبل أفضل، وسجناء يحملون الجحيم في قلوبهم، وشباب لا يعملون، غالباً ما يطرح علي سؤالًا: لماذا هم وليس أنا؟ ولدت أنا أيضاً في عائلة مهاجرة، والدي وأجدادي، كعدد من الإيطاليين الآخرين، هاجروا إلى الأرجنتين وعرفوا مصير من يخسر كل شيء، لذلك كان من الممكن أن أكون أنا أيضاً اليوم بين من يتجاهلون".
تخرج "بيرغوليو" فنياً كيماوياً، قبل أن يختار طريق الكهنوت، فيدخل في المعهد الإكليريكي "فيلاديفوتو".
وفي الـ11 من مارس (آذار) 1958 التحق بالرهبنة اليسوعية، ودرس العلوم الإنسانية واللاهوتية في تشيلي، وفي الـ12 من مارس 1960 أشهر نذوره الرهبانية، فغدا بذلك عضواً رسمياً عاملاً في الرهبنة.
الطريق لرئاسة أساقفة بينوس أيرس
عاد بيرغوليو لاحقاً للأرجنتين ليتابع دراساته في الفلسفة واللاهوت في جامعة سان ماكسيمو دي مغيل، التي حصل منها على درجة علمية في الفلسفة.
وتذكر مصادر أخرى أنه تابع دراساته في الأدب وعلم النفس بين عامي 1964 و1965 في جامعة "ديلا انماكيولادا" في "سانتا في" وتخرج منها.
ومنذ عام 1964 حتى عام 1965، علم بيرغوليو الأدب وعلم النفس في كلية الحبل بلادنس في "سانتا في"، وبعد سنة علم المادتين عينهما في كلية المخلص في "بوينس أيرس".
سيم بيرغوليو كاهناً على يد رئيس الأساقفة رامون خوزيه كاستيانو في عام 1969، غير أن مسيرته مع التحصيل العلمي لم تتوقف، فحصل عام 1986 على شهادة دكتوراه في اللاهوت في فرايبورغ – ألمانيا.
كان عام السيامة الكهنوتية عاماً مؤلماً صحياً بالنسبة إلى الكاهن الأرجنتيني الشاب، ذلك أنه أصيب بالتهاب خطر في الصدر استدعى استئصال إحدى رئتيه بعد نزاع دام ثلاثة أيام "بين الحياة والموت"، وقال في وقت سابق إن "هذا الإجراء الجراحي، كان يمكن تلافيه في حاضرات أيامنا عبر استخدام المضادات الحيوية المتقدمة".
انتصرت إرادة الحياة على الموت الذي واجه المدعو لاحقاً لأن يصبح "صاحب القداسة"، ومن قبل ذلك عين أستاذاً لعلم اللاهوت، ودرس في كلية الفلسفة واللاهوت في جامعة سان مغيل في مدينة "بوينس أيرس" بصفته محاضراً مبتدئاً، ثم أستاذاً، وكان أقام المحطة الأخيرة للتدريب الروحي للرهبان الجدد بحسب قواعد الرهبنة اليسوعية في إسبانيا، ومكث فيها حتى اختير رئيساً إقليمياً للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين بدءاً من الـ22 من أبريل (أبريل) 1973، واستمر في شغل المنصب حتى نهاية ولايته في عام 1979.
كانت فترة رئاسته للرهبنة بصفته رئيساً إقليمياً في بلاده، واحدة من أزهى الفترات وأكثرها نماء في حياة الأب برغوليو، فقد علم وحاضر في عدد من المحافظات الأرجنتينية، وبعد نهاية ولايته عاد للتدريس في جامعة "سان مغيل" وغدا عميد المعهد اللاهوتي هناك.
في أوائل العقد الأخير من القرن الـ20 وتحديداً في عام 1992، كان "يوحنا بولس الثاني"، البابا القديس، يختار الأب برغوليو، ليكون أسقفاً مساعداً لرئيس أساقفة "بيونس أيرس" الكاردينال أنطونيو كاراكينو، وفي منتصف عام 1997 عين "برغوليو" في منصب القائم بالأعمال الفعلي لأبرشية "بيونس أريس" مع حق الخلافة التلقائية، بعد تقدم رئيس أساقفتها في السن وتعثر صحته.
رحل الكاردينال "كاراكينو" عن عالمنا في الـ28 من فبراير (شباط) 1998، فغدا برغوليو رئيس أساقفة العاصمة الأرجنتينية، واحتفل بتنصيبه في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1998.
مثير جداً شأن "برغوليو" الفني الكيماوي والإكليريكي، ولاحقاً الأب الكاهن والراهب اليسوعي، وصولاً إلى رتبة رئيس أساقفة عاصمة إحدى أكبر دول أميركا اللاتينية.
المثير هو حبه للفقر والفقراء، وقال عن نفسه ذات مرة: "شعبي فقير وأنا واحد منهم"، ولهذا اكتفى بالعيش في شقته الصغيرة بدلاً من مقر رئاسة الأساقفة الفخم، وتخلى عن سيارة الليموزين مع السائق الشخصي، وقنع بوسائل النقل العام.
جعل الأسقف بيرغوليو إشكال العدالة الاجتماعية حجر زاوية في رئاسة أسقفيته، واشتهر بالتواضع الحقيقي، من دون زيف أو مراءاة، متقبلاً كل الآراء، داعماً لأسس الحوار البناء، مما دعا إلى تعميق دور الكنيسة الكاثوليكية في المشهد العام اللاتيني وليس الأرجنتيني فقط.
السيرة الذاتية وحديث الاستقالة
بمجرد إعلان توجه فرنسيس لإصدار سيرته الذاتية بعد نحو شهرين، تصاعدت درجة التوجسات الخاصة حول استقالته من منصبه، لاسيما بعد أن بدت عليه أخيراً علامات التعب والإعياء في زيارته الأخيرة لأندونيسيا، على رغم نجاح الزيارة.
هل يستقيل فرنسيس؟ الجواب يدفعنا للبحث في فكرة استقالة الحبر الروماني، التي لم تحدث منذ نحو 600 عام، قبل أن يبادر سلفه بنديكتوس الـ16 في عام 2013 إلى الاستقالة لتقدمه في العمر، وبسبب ظروفه الصحية، أو هكذا أعلن في الأقل.
هل يحق للبابا كنسياً تقديم استقالته؟ بلا شك يحق له، ذلك فوفقاً للقانون الروماني الكنسي الذي ينظم شأن الـ"كوريا الرومانية"، "حكومة الفاتيكان" وبالتحديد المادتين 331 و335 للبابا الاستقالة بوصفه صاحب السلطة العظمى في الكنيسة.
في بدايات باباويته تحدث فرنسيس عن أنه كتب بالفعل نص استقالته، وجعلها مع مسؤول الكوريا الرومانية (حكومة البابا) لقبولها في الوقت الذي يستشعر فيه ضعفاً يمنعه من أن يكمل مسيرته على العرش البابوي.
من هنا اعتقد كثيرون بأن فرنسيس قد يقدم بالفعل في أي وقت على تقديم هذه الاستقالة وهو في عمر الـ78، وبهذا يعد من بين أطول الباباوات عمراً، وليس أطولهم، فقد بلغ العمر بالبابا ليون الـ13 بأن وصل إلى الـ93 وهو في منصبه.
غير أن فريقاً آخر يرى أن فرنسيس رجل صعب المراس، فعلى رغم تقدمه في العمر، إلا أنه لا ينوي الاستقالة، والدليل على ذلك تنظيمه لما يعرف باللقاءات السينودوسية، التي يجمع فيها شمل مسؤولي الرؤساء الإقليميين لكاثوليك العالم من مختلف جهات الأرض.
أما الهدف الرئيس لهذه اللقاءات، التي جاء آخرها في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، فهو إعادة تنيظم شؤون الكنيسة من الداخل والخارج على حد سواء.
تتسم الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، بأنها كنيسة عصرانية، تتابع مسارات العالم، وتهتم بشؤون وشجونه، أزماته وقضاياه، وعادة ما يصدر الباباوات رسائل مجتمعية لا تتعلق بكاثوليك العالم فحسب، بل تمتد إلى البشرية كافة.
على سبيل المثال لا الحصر، في أوائل العام الحالي 2024، كرس البابا فرنسيس رسالة اليوم العالمي للسلام، الأول من يناير (كانون الثاني)، لمناقشة إشكال الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكن له أن يؤثر في مآلات البشرية في العقود المقبلة، وقبل ذلك بنحو ثلاثة أعوام، دعا إلى ما عرف بـ"لقاء روما" الذي أصدر ميثاقاً دولياً لتنظيم أدبيات المجال الذي يعد من قبيل النوازل في مسيرة الإنسانية.
من هنا بادر كثيرون إلى اعتبار أن صدور سيرته الذاتية مبكراً وفي حياته، وإعلان ذلك خلال عقد أعمال سينودس هذا العام، هو نوع من تجهيز المسرح لاختفائه عبر الاستقالة.
هل من شأن آخر جعل فكرة الاستقالة هذه قريبة إلى الأذهان بصورة أو بأخرى لدى خواصه من كاثوليك العالم بداية، ومن مسيحيي الكرة الأرضية تالياً، إضافة إلى بقية العالم انطلاقاً من الأهمية الأخلاقية الكبرى التي يمثلها هذا المنصب في الحل والترحال؟
عن الكرادلة الجدد والبابا المقبل
تبدو قصة "الأمل" وكأنها مكملة لاستعدادات بعينها تجري وراء أسوار الفاتيكان، تتمثل في إعلان البابا فرنسيس تعيين كرادلة جدد، فمن الكرادلة أول الأمر؟
باختصار غير مخل، إنهم أمراء الكنيسة، الذين يكون اختيار البابا المقبل منهم تقليدياً، ذلك أنه بعد وفاة البابا، أي بابا، وبعد أيام التجنيز، وصلاة الجناز والدفن، يدعو كبير الكرادلة، وهم غالباً من الأساقفة، كما يمكن أن يوجد من بينهم كهنة غير أساقفة، إلى الاجتماع في كنيسة السيستين، وينتخب البابا الجديد بصورة ديمقراطية بينهم، بمعنى أن من يحوز على أكبر عدد من الأصوات هو من يصبح البابا.
وحديثاً جرت تعديلات على أعمار الكرادلة المنتخبين، إذ لا يتوجب أن يزيد أعمارهم على 80 سنة.
في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي أعلن البابا فرنسيس عزمه تعيين عدد من الكرادلة الجدد، وسينصب في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وقال في كلمته الموجهة لهم إنهم بتعيينهم هذا سيصبحون جزءاً من أكليروس روما.
"أحفزك على أن يجسد كونك كاردينالاً"، واصل البابا فرنسيس متحدثاً إلى كل من الكرادلة الجدد، "على التصرفات الثلاثة التي يتوجب على الكاردينال التميز بها وهي: الأعين المرفوعة، والأيادي المضمومة، والأقدام الحافية".
ويقول فرنسيس في توجييه لهم، إن خدمتهم ستستدعي "توسيع النظرة والقلب والتمكن من النظر إلى ما هو أبعد، والقدرة على محبة جامعة بصورة أكبر، وبمزيد من الزخم، والدخول في مدرسة الرب".
عطفاً على ذلك، وجه فرنسيس رسالة جامعة إلى مجمع الكرادلة طالبهم فيها ببذل مزيد من الجهود لتنفيذ الإصلاح الاقتصادي للكرسي الرسولي، قائلاً "نحتاج إلى إعطاء مثال ملموس لكي تتم خدمتنا بروح الجوهر لا المظهر، ونتجنب الفائض ونختار أولوياتنا بصورة جديدة، ونعزز التعاون المتبادل والتآزر".
هل كان فرنسيس في رسالته هذه، وفي تعيينه لكرادلة جدد سيتم تنصيبهم في الأسبوع الأول من شهر ديسمبر، يعد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لحدث هو الأهم في الربع قرن الماضي، حدث لا يتكرر إلا مرة كل 25 عاماً في تاريخ الكنيسة؟
وإذا كان ذلك كذلك، فهل سيصاحب هذا الحدث تخليه طوعاً عن سلطته البابوية، والسعي إلى الاستقالة، ومن ثم تجري عملية انتخاب بابا جديد للفاتيكان؟
الـ24 من ديسمبر وعام يوبيل الرجاء
يبدو الجواب مطولاً بعض الشيء، ومعقداً في أكثره، ولهذا سنحاول في هذه السطور تفكيك المفاهيم أولاً.
بداية فإن عشية الـ24 من ديسمبر من كل عام، هي ليلة عيد الميلاد المجيد، الذي يعد عيد أعياد الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، فيما عدا بعض الطوائف الشرقية.
ما الذي سيحدث في تلك الليلة؟
سيستهل فرنسيس في تلك الأمسية، حين يجري قداس الميلاد، ما يعرف بعام اليوبيل، الذي يحمل عنوان الرجاء، وفيه سيفتح فرنسيس الباب المقدس لكاتدرائية القديس بطرس.
ما عام اليوبيل بداية؟
هو عام تعلنه الكنيسة عاماً مقدساً مرة كل ربع قرن، ويقوم فيه المؤمنون الكاثوليك من أنحاء الأرض كافة، بالحج إلى المدينة المقدسة روما، التي تعد في التقليد المسيحي "المدينة المقدسة" لأن كبير الحواريين، بطرس الرسول، قتل فيها، وكذا مار بولس، المبشر المسيحي الأعظم، وكلاهما قتل في عهد الإمبراطور الروماني نيرون، الذي أحرق روما ليأتيه الإلهام، ويكتب الشعر، وتالياً ألصق الجريمة الشنعاء بالمسيحيين الذين كانت أعدادهم بدأت تتزايد، مما أضحى مهدداً لعبادات روما وآلهتها الوثنية.
في التاسع من مايو (أيار) الماضي، أعلن البابا فرنسيس رسمياً أن عام 2025، سيكون عام اليوبيل من خلال مرسوم بابوي بعنوان (Spes Non Confudit) أي "الرجاء لا يخيب"، وسيبدأ هذا اليوبيل من فتح الباب الرئيس لبازيليكا سان بيترو الشهيرة.
في رسالته في شأن هذا اليوبيل قال فرنسيس "إن الأمل هو أيضاً الرسالة المركزية لليوبيل القادم الذي يعلنه البابا كل 25 سنة وفقاً لتقليد قديم"، وأضاف "إن أفكاري تتجه إلى حجاج الأمل، الذين سيسافرون إلى روما من أجل إحياء السنة المقدسة، وإلى كل هولاء الآخرين الذين على رغم عدم قدرتهم على زيارة مدينة الرسولين بطرس وبولس، سيحتفلون بها في كنائسهم المحلية".
وقال البابا فرنسيس، "في قلب كل إنسان، يسكن الرجاء كرغبة وتوقع للأشياء الجيدة المقبلة، على رغم عدم معرفتنا بما قد يحمله المستقبل، ومع ذلك فإن عدم اليقين في شأن المستقبل قد يؤدي في بعض الأحيان إلى مشاعر متضاربة، تتراوح من الثقة الواثقة إلى القلق، ومن الصفاء إلى القلق، ومن الاقتناع الراسخ إلى التردد والشك. غالباً ما نصادف أشخاصاً محبطين ومتشائمين في شأن المستقبل، وكأن لا شيء يمكن أن يجلب لهم السعادة".
ما الذي يشكله عام اليوبيل بالنسبة إلى فرنسيس؟
بحسب قوله:" إن اليوبيل فرصة لنا جميعاً لتجديد الرجاء".
ولعل الذين يستمعون إلى كلمة اليوبيل، يجدونها غريبة على الأذهان، وإن كان لها حضور لدى الشعب اليهودي قبل بضعة آلاف من السنين، ففي ذلك العام كان يطلق سراح العبيد، وترفع الديون عن المديونين، لإظهار رحمة الله للبشرية بأسرها.
وفي عام 1300، أعاد البابا بونيفاس الثامن هذا التقليد، ولأنه في ذلك الوقت لم يكن هناك بعد عبيد مستعبدين، فقد جاءت النسخة المسيحية للتحرر من الخطايا ومن العقوبة المستحقة على الخطايا التي يتوجب قضاءها في المطهر بحسب المفهوم اللاهوتي الكاثوليكي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
متى سينتهي هذا اليوبيل؟
رسمياً في السادس من يناير (كانون الثاني) من عام 2026، أي خلال ما يعرف بعيد الغطاس (ذكرى عماد يسوع المسيح في نهر الأردن).
هل لا يزال هناك رابط بين هذا اليوبيل، وبين السيرة الذاتية، التي تحمل كذلك بالإيطالية التعبير نفسه SPERA، أي الرجاء؟
سيرة فرنسيس والعودة للاتيران
في جميع أنحاء الكتاب، يستعيد فرنسيس لحظات مهمة من حياته في ضوء الأحداث التاريخية التي وقعت على مدى العقود الثمانية الماضية. وفي صفحاته كذلك، نرى رعاية حلم المستقبل للكنيسة الرومانية الكاثوليكية، ويأمل أن يراها كنيسة لطيفة ومتواضعة ومفيدة، متسمة بصفات الله، بالتالي تكون أيضاً حنونة وقريبة ومليئة بالرحمة.
هل هذه هي وصية يكتبها فرنسيس قبل أن يغادر موقعه مستقيلاً؟
الشاهد أنه مع إداركه لقرب نهاية حبريته، حدد البابا فرنسيس ملامح كنيسة أكثر شمولاً وانفتاحاً، معبراً ضمناً عن الصعوبات التي واجهها في إصلاحاته لأكثر من 11 سنة.
يقول فرنسيس في بعض من سطور هذا الكتاب "اعتاد يسوع أن يتردد على الناس الذين يعيشون على الهامش، في الضواحي الوجودية، ويلتقي بهم في كثير من الأحيان".
كانت هذه الفكرة مفهوماً رئيساً عبر عنه خلال التجمعات العامة، تلك الاجتماعات التي عقدها الكرادلة في الأيام التي سبقت اجتماع عام 2013، الذي كان حاسماً في انتخابه.
يرى فرنسيس أن هذا السلوك هو ما يتوجب على الكنيسة أن تفعله مع جميع المرضى بالأمراض الروحية والجسدية.
هنا نصل إلى الخلاصة التي يتوقعها كثيرون في روما وخارجها، وهي أنه بعد كل تلك التجهيزات والاستعدادات، قد يفاجئ فرنسيس الرومان الكاثوليك، ليلة عيد الميلاد المقبل، بحديثه عن التخلي عن منصبه، والعودة ليسكن في كنيسة اللاتيران، في قلب روما، التي هي في الأصل المقر الشرعي لبابا روما. وربما يعزز من هذا التوقع، أنه وعلى خلاف غالبية باباوات روما الذين دفنوا تحت سطح كنيسة مار بطرس، فإنه اختار كنيسة اللاتيران ليدفن فيها بحسب وصيته.
ولعل السؤال المتبقي، وبعيداً مما وصلنا إليه من تسريبات لما جاء في سيرته الذاتية: "هل يمكن أن تأتي هذه الصفحات بمفاجآت تشكل صدمات ما للمجتمع الكاثوليكي العالمي"؟
قد لا يكون الأمر من قبيل الصدمات، لكن المفاجآت، لاسيما أن تاريخ فرنسيس الطويل، مليء بما هو خارج عن المعروف والمألوف والموصوف.
دعونا ننتظر ونرى المفاجآت المقبلة من "الفقير" وراء جدران الفاتيكان.