Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مشيت ساعات إلى منزلي في غزة فلم أجد سوى الركام

نضال حمدونة، صحافي فلسطيني، نزح سبع مرات بسبب الحرب التي استمرت 15 شهراً في غزة. في السطور التالية، يصف الفرحة التي غمرته عندما تمكن من العودة إلى بيت لاهيا في شمال القطاع، والألم الذي اعتصر قلبه عندما رأى حجم الخراب

نضال يسير في رحلة استغرقت 11 ساعة عائداً إلى بيت لاهيا، إحدى أكثر المناطق خراباً في غزة (نضال حمدونة)

ملخص

شهادة عن العودة إلى ركام بيت لاهيا بعد درب آلام طويلة

مشيت في الطريق المؤدي إلى شمال قطاع غزة طوال 11 ساعة، لأقطع مشياً على القدمين تلك الدروب الطويلة إلى منزلي. كانت هذه الرحلة حلماً لم يبرح مخيلتي على مدى عام وأربعة أشهر.

طويلة وشاقة كانت الرحلة: الطريق دمرته الدبابات والجرافات والقصف. رأيت رجلاً عجوزاً يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقد تحملق أطفاله حوله، محاولين إنعاشه صناعياً بطريقة بدائية، وعبثاً يلوحون للطائرات في السماء علها تأتي بعون عاجل. كذلك صادفت امرأة حاملاً وقد غلبها البكاء إذ دخلت في ولادة مبكرة بسبب الإرهاق الشديد الذي تعرضت له خلال المسير.

وبعدما قطعنا سبعة كيلومترات، نفدت مياه الشرب من الناس. وأضاع بعض الأهالي أطفالهم وأفراداً آخرين من أسرهم وسط الحشود الضخمة. ولم تكن لدى الجموع أي وسيلة اتصال، إذ تعذر عليهم الاستعانة بهواتفهم لأن المنطقة خالية من إشارة الهاتف المحمول، ولم يكن مسموحاً أيضاً باستخدام وسائل التنقل على هذه الطريق. وبعد وفاة الرجل المسن، بدا أن رجلاً آخر دخل في غيبوبة تحت وطأة التعب الشديد. وللأسف، لم تكن سيارات الإسعاف متوافرة [وفي المطال].

ومع ذلك ما انفك العائدون إلى منازلهم يمشون ويمشون، في سيل متدفق من الناس. عائلات برمتها، كبارها وصغارها، سعداء ومفعمون بالحماسة، على رغم طول الطريق وصعوبته.

اقرأ المزيد

نزحت في بداية الحرب من بيت لاهيا، مسقط رأسي في أقصى شمال قطاع غزة المحاصر. هربنا مكرهين من القصف العنيف مرات عدة: أولاً إلى وسط القطاع، ثم إلى الجنوب، وأخيراً إلى الساحل. وهكذا، منذ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار الذي يتضمن السماح للفلسطينيين النازحين بالعودة إلى الشمال، وجدتني أحصي الأيام والساعات واللحظات التي سأرجع بعدها إلى دياري.

كنت أتخبط في حال من القلق والتوتر من أن تفشل الصفقة أو يتقرر تعليقها قبل لحظات من مغادرتنا. أفكاري كلها وهواجسي كان شاغلها فكرة واحدة فحسب، أن يمضي الوقت سريعاً. على مدى سبعة أيام لم يعرف النوم طريقه إلى جفني.

في ذلك الصباح، الإثنين الـ27 من يناير، استيقظت في الخامسة صباحاً على صوت الهتافات وتفكيك الخيام من حولي استعداداً للمغادرة [حمل الرحال]. كان الخبر قد انتشر تواً بأن إسرائيل ستسمح أخيراً بعودة النازحين إلى شمال غزة بعد انسحابها من "ممر نتساريم" [المحور الأوسط]، الذي احتله الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب، ويقسم فعلياً قطاع غزة إلى قسمين [شمالي وجنوبي].

وقبل يومين، تجمع عشرات الآلاف من الناس، في انتظار التوجه شمالاً، كما نصت عليه شروط وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ قبل أسابيع. حتى إن كثراً فككوا خيامهم وأحرقوها، ظناً منهم أنهم في أي لحظة ربما يتحركون في رحلة العودة [إلى الشمال]. ولكن كان عليهم أن يمضوا بضع ليال قاسية في العراء حيث قاسوا البرد القارس لأن إسرائيل أجلت عودتهم لعدد من الأيام.

ولكن في صباح الإثنين، شربت كوباً من الشاي وأكلت قطعة من الخبز. حملت حقيبتي على كتفي وودعت أمي وابنتي وزوجتي، وكلي أمل في أن ينضممن إليَّ في الأيام المقبلة. في الساعة التاسعة صباحاً، استقللت السيارة مع زوج أختي وابن أخي من مدينة خان يونس الجنوبية إلى النصيرات، ومن هناك مشيت مسافة 20 كيلومتراً فوق أنقاض مخيم النصيرات على طول الطريق الساحلي المؤدي إلى مدينتي، بيت لاهيا.

كان قلبي وروحي ينبضان بالفرح كلما خطوت خطوة في طريقي نحو الشمال. كل خطوة واحدة مشيتها كانت تقربني أكثر إلى بيتي وأرضي.

رسمت في ذهني صورة جميلة عن العالم قبل هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، صورة لبلدة بيت لاهيا. تقع في أقصى شمال غزة وتتميز بشاطئ طويل من الرمل ومناطق استراحة خلابة. أما المياه الجوفية العذبة والوفيرة القادمة من جبال الخليل، فجعلت منها واحدة من أكثر الأراضي خصوبة. هنا، تغطي المساحات بساتين خضراء وتتنوع المحاصيل من برتقال وليمون وجوافة، وخصوصاً حقول الفراولة الحمراء. منذ أوائل سبعينيات القرن الـ20، وبفضل جودتها وطعمها الحلو والفريد، وجدت فراولة بيت لاهيا طريقها إلى الأسواق الأوروبية. إنها "الذهب الأحمر" بالنسبة إلى السكان المحليين لما تحمله من قيمة ولأهميتها الاقتصادية.

هناك، نشأت تحت ظلال أشجار الجميز وبين أحضان شجيرات الفراولة، تحيط بي أصوات باعة العربات، وضجيج محركات المياه الزراعية، وتجمعات الأصدقاء والعائلات في الشوارع حيث تعلو الضحكات وتطول الأحاديث. ذكريات طواها الزمن منذ عام أو أكثر ولكنها بقيت حية في قلبي، ذكريات كنت أرجو مع كل خطوة نحو الشمال أن أعود إليها.

ولكن كلما تقدمت نحو الشمال، تعاظم شيئاً فشيئاً حجم الدمار والخراب الذي خلفته الحرب، مطبقاً على أنفاس الحياة وناسها الذين بدا أنهم غادروا الأمكنة. مررت بمدينة غزة، وواصلت سيري حتى بلغت محافظة الشمال جباليا، وبيت لاهيا. كان الخوف يعتريني من أن يعيد التاريخ نفسه، فيترك الفلسطينيون أراضيهم قسراً ولا يعودون إليها أبداً، كما حدث عام 1948. لم أصدق أننا سنعود حقاً إلى ديارنا حتى اللحظة التي وطأت فيها أقدامنا تراب منطقتي. كانت الساعة قد بلغت السابعة صباحاً عندما دخلت بيت لاهيا.

نعم، كنت سمعت كثيراً عن الدمار الذي احتل الأمكنة وشوهها، وكنت تأملت طويلاً الصور المؤثرة المنشورة عبر صفحات الإنترنت، ولكنك في الحقيقة لا تدرك هول الفاجعة حتى ترى المشهد بأم عينيك. أينما نظرت، يميناً أو يساراً، بدا كما لو أن قنبلة ذرية قد ضربت هذه البقعة من الكوكب فسوت بالأرض جميع المباني. لم تعد المدينة تشبه نفسها [ما كانت عليه]، فقد تبدلت معالمها واستحالت خراباً مهجوراً يسوده الصمت وتسكنه الأشباح. وكانت بيت لاهيا، مسقط رأسي، الأكثر دماراً. أما المنازل القليلة التي صمدت فقد صارت خرائب محطمة ومحروقة،غير صالحة للعيش.

 

وصلت إلى حينا عند الساعة الثامنة. كان البعض أخبرني سابقاً أن الدمار قد لحق بأجزاء من منزلي. دخلت الشارع حيث أقيم وما إن وقعت عيني على بيتي هناك، حتى نسيت تماماً التعب الذي أنهك مفاصل جسدي كلها. وجدته خالياً من أي أثاث وقد تحطمت جدرانه. عزمت أن أفتش لاحقاً بين أكوام الرمل والحجارة لعلي أنتشل شيئاً من بقايا ذكرياتنا الضائعة بين الركام... صور وأوراق رسمية ومتعلقات شخصية شاهدة على ماضينا.

هذا الصباح، جلست على عتبة باب المنزل أتأمل حالنا والصمت يلف المكان، بينما كان يمر بي سكان آثروا الصمود في بيت لاهيا، ويسألونني عن أحوال الجميع. وفي غمرة تفكيري، عرفت أن أحلامي كلها صارت هباءً منثوراً، وأن آمالي وأحلامي تحطمت على صخور الدمار وأرض الواقع الأليم، وأكوام حطام لن يكون انتشالها ممكناً قبل أعوام.

يبقى أنني لست أدري ما إذا كانت بساتين بيت لاهيا ستعود لتزهر من جديد، كما كانت دوماً.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات