ملخص
من بين الملفات التي خلقت ابتعاداً ما بين المواقف العربية وواشنطن مسألة حرب غزة، فهجوم "حماس" على المدنيين الإسرائيليين خلق موجة داخل إسرائيل تريد سحق الحركة، وتعاظمت أصوات اليمين القومي "بإخلاء غزة" وجعلها منطقة فاصلة، فضغط بايدن على إسرائيل ليرغمها على وقف إطلاق النار، مما أخر تل أبيب في حسم الوضع على الأرض لمصلحتها وأدى إلى تصاعد السخط الداخلي على رئيس الحكومة الإسرائيلية.
فجرت القنبلة التي رماها دونالد ترمب جواً صاعقاً جديداً داخل واشنطن والعواصم العالمية والإقليمية، فلمناسبة قمته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أعلن الرئيس الأميركي بأنه سيقترح على فلسطينيي غزة "إعادة إعمار القطاع كلياً تحت مظلة الولايات المتحدة وشركاء"، مضيفاً أنه سيقترح على بعض الدول العربية أن تستوعب سكان غزة بالتساوي مرحلياً حتى يجري إنهاء الورشة الكبرى.
ومع أن الفكرة لم تعرض تفاصيل كثيرة بعد فإن المسؤولين الفلسطينيين والعرب ردوا بسرعة أنهم يرفضون المقاربة فوراً وبحسم، والمسؤولون الإسرائيليون أيدوا بالمبدأ ولكن بقلق، إلا أن ترمب استمر في عرضه ومن المتوقع أن يضغط باتجاهه طوال الأعوام الأربعة المقبلة، وفي هذه المقالة سأسعى إلى فهم أعمق للمشروع وللمواقف الإقليمية والدولية والمرحلة الآتية.
لأول وهلة تبدو تصريحات الرئيس ترمب وكأنها غريبة في عالم السياسات الإقليمية، ولا سيما خلال الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إذ إن فكرة إخلاء الفلسطينيين لغزة وطرح حل إعادة الإعمار والعودة ومجرد استعمال عبارة "الإخلاء" بحد ذاته لن يمر في ذهن الوعي المشترك الفلسطيني والعربي، ويستوجب رداً رافضاً من القيادات العربية وهذا ما حصل بالفعل، إذ ردت مصر والأردن والسعودية بأن موضوع نقل الفلسطينيين إلى أي مكان غير وارد على الإطلاق، ورد ترمب أنه مصمم على هكذا حل وهو لمصلحة الفلسطينيين، ولكن ما هي جذور مشروع ترمب أساساً؟
قليلون يعرفون أن كلام ترمب عن غزة وضرورة ترميمها وإعمارها وتوفير حياة جديدة لأهلها ليس جديداً، ولكنه صدر للمرة الأولى بشكل ساطع وإن لم يكن مفصلاً، وهنا عليّ أن أعود للوراء لـ 10 أعوام وتحديداً في ديسمبر (كانون الأول) عام 2015 عندما اجتمعتُ مع دونالد ترمب قبل أن يعينني مستشاراً للسياسة الخارجية، فوضع خرائط المنطقة على مكتبه وتوقف عند مناطق عدة ومن بينها غزة، وشرح أنه ينبغي الاهتمام بها وسكانها، وأنه سيسعى إلى إعادة بنائها وإيجاد سلطة بديلة فيها، ولكنه لم يتكلم عن انتقال للأهالي إلى أي مكان آخر خارج القطاع.
وخلال فترته الرئاسية الأولى أراد ترمب أن يطلق مبادرة عربية موحدة بشراكة مع الولايات المتحدة، ولذلك زار الرياض في مايو (أيار) عام 2017 ودعا الملوك والرؤساء العرب والمسلمين إلى أن يدحروا الإرهاب من خمينيين وإخوانيين ويتعاونوا على نشر الازدهار في المنطقة، وانسحب من الاتفاق النووي وضرب الميليشيات الإيرانية وكسر "داعش" ووضع الحرس الثوري الإيراني على لائحة الإرهاب، ودعم المشاريع الإنعاشية في المنطقة، بما فيها تلك المتعلقة بالقطاع والضفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان ترمب يسعى إلى تنفيذ مشاريع اقتصادية اجتماعية للفلسطينيين وجماعات أخرى في المنطقة قبل انتخابات عام 2020 أملاً باعتراف دولي بإنجازاته من "معاهدة أبراهام" إلى حل للصراع الإسرائيلي وصولاً إلى تنفيذ القرار الدولي رقم (1559) في لبنان، وحظي بدعم التحالف العربي وتأييد إسرائيل ودعم الكونغرس لعامين، وأمل في الحصول على جائزة نوبل للسلام.
لكن التظاهرات وانتفاضة البيروقراطيين وفوضى الانتخابات وخسارته في المحاكم وخروجه من البيت الأبيض أنهى برنامجه في الشرق الأوسط، بما فيه مشروع غزة للازدهار، وهنا انتهى عهد ترمب الشرق أوسطي الأول، لكن الرئيس السابق الذي تحول إلى رأس المعارضة في أميركا لأربعة أعوام علّق اهتمامه بالشؤون الخارجية وركز على الحملة لعودته للبيت الأبيض، وفي السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تغير الشرق الأوسط بكامله، ولم يسمح انشغال ترمب الحاد بصراعه مع "السلطة الإدارية العميقة" له بالتركيز على السياسات الخارجية وعلى عدم ضبط إدارة بايدن العلاقات مع الدول العربية، فبدأ الدور الأميركي ينحصر ويتهاوى في المنطقة وبدأت بعض دول الاعتدال العربي تنظم معادلاتها بنفسها كما فعلت السعودية والإمارات ومصر ومعها الأردن والمغرب وغيرها، أي أن التحالف العربي أعاد تموقعه حيال إيران وسوريا والعراق، وخلال حرب ما بعد السابع من أكتوبر 2023 خرجت هذه الدول عن الامتثال للقرار الأميركي ولا سيما مع تذبذب إدارة بايدن حيال سياسات هذه الدول الشريكة.
ومن بين الملفات التي خلقت ابتعاداً ما بين المواقف العربية وواشنطن مسألة حرب غزة، فهجوم "حماس" على المدنيين الإسرائيليين خلق موجة داخل إسرائيل تريد سحق الحركة، وتعاظمت أصوات اليمين القومي بإخلاء غزة وجعلها منطقة فاصلة، وضغط بايدن على إسرائيل ليرغمها على وقف إطلاق النار مما أخر تل أبيب في حسم الوضع على الأرض لمصلحتها، مما أدى إلى تصاعد السخط الداخلي على رئيس الحكومة الإسرائيلية.
ومع فوز ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية صعّد نتنياهو القتال وأعلن الرئيس الجديد أنه سيحسم الحرب ويحرر الرهائن قبل دخوله المكتب البيضاوي، وربما اعتقد أن حلفاءه العرب لا يزالون كما تركهم نهاية عام 2020، وزاد الطين بلة ما حدث في سوريا من تغييرات على الأرض في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
دفع ترمب باتفاق وقف إطلاق نار ناجح أوقف العمليات العسكرية وبدأ بتبادل الأسرى والرهائن، واعتبر الرئيس أن الوقت حان للانتقال إلى الحلول فطرح مشروع "إعادة تأهيل غزة" أي إعادة إعمارها من الصفر وتنظيفها من الركام، وسيكون بحد ذاته عملاً هائلاً وطويلاً، فإعادة تخطيط المدن والخدمات العامة وتشييد المباني الحكومية والمستشفيات والمدارس وبعدها الحدائق والجوامع وميناء مطار وما إلى هنالك، وبعد ذلك الانتقال إلى بناء المباني الشعبية والمصالح المهنية.
لقد نظر ترمب إلى خرائط غزة كرجل أعمال ومستثمر ورأى مستقبلاً يتحول فيه القطاع إلى دبي أو سنغافورة أو الريفييرا الفرنسية وإن أخذ ذلك بعض الوقت، وعقّب ترمب أنه ينبغي على سكان غزة أن يقيموا في مناطق أخرى داخل دول عربية قريبة حتى ينتهي الإعمار ويعودون للقطاع، أو إذا أرادوا أن يبقوا حيث هم، فالانتقال الموقت يحسب طبيعياً في حالات كثيرة في مناطق مختلفة، وقد حدث عبر أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وإبان الحرب الباردة أيضاً، أو بعد الفيضانات الكبرى أو الهزات المدمرة، ومن منطق ترمب فهكذا مشاريع تحتاج إلى انتقال ديموغرافي موقت، إلا أن الوضع الجيوسياسي الفلسطيني الإسرائيلي لا يزال قاتماً لعدم وجود ثقة، فلو حدث ذلك في دول غربية أو في الصين أو داخل دول إسلامية أو عربية مثل إندونيسيا ومصر أو غيرها فمشروع ترمب ممكن، ولكن قلق الدول العربية من أن يتحول الانتقال إلى حال دائمة من الهجرة فتتكرر محنة عام 1948 هو في هاجس قياداتها، واستغلال مبادرة دونالد ترمب من قبل الراديكاليين مثل الجمهورية الإسلامية والقوى الإخوانية وتحويل المسألة إلى تخوين عرب الاعتدال أسهم في تعقيد الموضوع أكثر، إذ تحول إلى قضية ثقة وتخوين، ولم يبق أمام ترمب والشركاء العرب إلا اللجوء إلى خيارين، إما الذهاب إلى مؤتمر يناقش حل الدولتين أو مؤتمر إبراهيمي ثان يلتزم بتوفير ثقة حول عودة الغزاويين لجنة وعد بها ترمب.