ملخص
يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترمب الاعتماد على الرسوم الجمركية كأداة لسياسته الاقتصادية، متمسكاً برؤية قديمة حول التجارة والعجز التجاري. فبعد تهديده بفرض ضرائب على الواردات من كندا والمكسيك وحصوله على تنازلات أمنية من البلدين، لا يزال يلوح بمزيد من الإجراءات الجمركية رغم التحذيرات الاقتصادية لقناعته بأن هذه السياسات ستعيد ازدهار أميركا.
لطالما ركز دونالد ترمب على فكرة أن الرسوم الجمركية كفيلة بحل المشكلات المالية للبلاد، ولهذا المفهوم جذور تاريخية عميقة، إذ كانت الرسوم الجمركية المصدر الوحيد لإيرادات الحكومة الفيدرالية حتى عام 1913، عندما جرى إقرار التعديل الـ 16 للدستور والذي منح الكونغرس سلطة فرض ضرائب على الدخل.
وبينما كان ترمب يستعد للعودة إلى منصبه رئيساً للولايات المتحدة، بدأ في طرح فكرة تأسيس "خدمة للإيرادات الخارجية" تتولى تحصيل الرسوم الجمركية، متجاهلاً على ما يبدو حقيقة أن هيئة الجمارك الأميركية التي أصبحت الآن جزءاً من هيئة الجمارك وحماية الحدود الأميركية كانت مسؤولة عن جمع الرسوم الجمركية منذ أن كان ألكسندر هاملتون وزيراً للخزانة خلال رئاسة جورج واشنطن.
لكن هوس ترمب بالرسوم الجمركية ليس جديداً، فقد استخدم خلال ولايته الأولى سلطته في شكل متكرر لفرض ضرائب استيراد من جانب واحد أكثر من أي رئيس في الزمن الحديث، والحقيقة أن هذا المفهوم كان حاضراً في فكره طوال حياته العامة منذ ظهوره كرجل أعمال بارز في مجال العقارات خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.
نشأ ترمب في فترة الازدهار التي بدأت نهاية الحرب العالمية الثانية واستمرت من دون انقطاع حتى صدمة أزمة النفط التي أدت إلى ارتفاع الأسعار أواخر السبعينيات، وأسهمت في فوز رونالد ريغان على جيمي كارتر في انتخابات عام 1980.
شهدت تلك الحقبة أيضاً صعود اليابان كقوة اقتصادية عالمية، إذ ساد آنذاك خوف واسع من احتمال تفوقها على الولايات المتحدة كأقوى اقتصاد في العالم، ومع ازدياد شهرته وتلميحه إلى خوض غمار السياسة والسعي إلى منصب رفيع، بدأ ترمب يتحدث عن التجارة العالمية، وهي نقاط ظل يكررها على مدى العقود التالية من دون تغيير يُذكر.
في مقابلة أجراها عام 1987 مع المذيع لاري كينغ على شبكة "سي إن إن"، انتقد بسدة سياسات طوكيو التجارية وقال ترمب "الحقيقة هي أنه لا توجد تجارة حرة، نحن نعتقد أنها تجارة حرة لكنك في الواقع لا تملك تجارة حرة"، وأضاف لاحقاً أن "كثيراً من الناس قد سئموا مشاهدة الدول الأخرى وهي تستغل الولايات المتحدة".
واليوم لم تعد اليابان القوة التي كانت عليها من قبل، لكن ترمب لا يزال مقتنعاً بأن الولايات المتحدة تُستغل بطريقة ما، على رغم أن العجز التجاري الذي كثيراً ما يهاجمه، هو في الواقع نتيجة للتحولات العالمية في التصنيع وسلاسل التوريد، وليس نتيجة لمؤامرات مدبرة من قبل نخب عالمية غامضة.
وبسبب عقود من القرارات التي اتخذها الكونغرس لتفويض المزيد من سلطاته التجارية إلى السلطة التنفيذية، لم يعد للمشرعين الأميركيين دور كبير في تحديد الضرائب التي يدفعها الأميركيون على السلع المستوردة.
وبعد أيام فقط من بدء ولايته الثانية هز ترمب الأسواق الأميركية بتهديده بفرض رسوم جمركية بـ 25 في المئة على كل المنتجات المستوردة من أقرب جارتين لأميركا، المكسيك وكندا، وكعادته أعلن الخبر خلال عطلة نهاية الأسبوع وعبر منصته الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي "تروث سوشال"، وبحلول صباح الإثنين تفاعلت الأسواق بسرعة مع الخبر، إذ شهدت عمليات بيع واسعة بمجرد افتتاح التداول.
ولم يمض وقت طويل حتى أجرى ترمب مكالمات هاتفية مع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو ورئيسة المكسيك كلوديا شينباوم، وبعدها أعلن الزعيمان سلسلة من التنازلات المتعلقة بالأمن على حدودهما مع الولايات المتحدة، وسرعان ما أعلن ترمب بدوره تعليق خطته لفرض الرسوم الجمركية 30 يوماً.
في ذلك الوقت قال ترمب إنه "راض جداً عن هذه النتيجة الأولية"، مشيراً إلى إعلان ترودو تعيين "مسؤول رفيع المستوى" لمعالجة تهريب مادة الـ "فنتانيل" المخدرة (وهو السبب الذي استند إليه ترمب لتبرير فرض الرسوم الجمركية) وتشكيل "قوة ضاربة" كندية - أميركية مشتركة لمكافحة الجريمة المنظمة والمخدرات وغسل الأموال.
كذلك أشاد ترمب بتعهد شينباوم بإرسال مزيد من القوات المكسيكية لتعزيز القوة الأمنية التي تقوم بالفعل بدوريات على الحدود الشمالية لبلادها، ومع ذلك لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه القوات الإضافية هي نفسها التي تعهدت شينباوم سابقاً بإرسالها شمالاً قبل أشهر فقط عقب مجموعة سابقة من تهديدات ترمب بفرض رسوم جمركية مباشرة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2024.
والخميس الماضي لمّح ترمب إلى مزيد من الإعلانات المتعلقة بفرض رسوم جمركية في منشور آخر على "تروث سوشال"، إذ وعد بعقد "مؤتمر صحافي" ووصف الإعلان المرتقب بفرض "رسوم جمركية متبادلة" [الرسوم الجمركية التي تفرضها دولة ما على وارداتها من دولة أخرى استناداً إلى مستوى الرسوم التي تفرضها تلك الدولة على صادرات الدولة الأولى] على جميع الدول بأنه "الخطوة الكبرى".
لكن عندما وصل المراسلون (المجموعة الصحافية العادية في البيت الأبيض المكونة من 21 عضواً إضافة إلى عدد قليل من المراسلين التلفزيونيين المختارين بعناية) إلى المكتب البيضاوي، كان المشهد أقل إثارة مما توقع كثيرون، فبدلاً من فرض رسوم متبادلة على جميع الواردات فوراً، بناء على الضرائب التي تفرضها الدول الأخرى على السلع الأميركية، كلف ترمب فريقه الاقتصادي بدرس القضية، وسيقوم الفريق بتحليل الحواجز التجارية التي تضعها الدول الأخرى أمام المنتجات الأميركية وتقديم تقرير خلال180 يوماً، وبعدها يمكن لترمب البدء في فرض رسوم انتقامية على أي دول تُعتبر أنها تضر بالمصالح الأميركية من خلال "ترتيبات تجارية غير تبادلية" يعتمدها أي من شركاء الولايات المتحدة التجاريين.
كذلك أعلن في مذكرة رئاسية أنه سيعتبر نظام ضريبة القيمة المضافة المستخدم في أنحاء العالم كله مساوياً لفرض رسوم جمركية على المنتجات الأميركية، وأدرج في المذكرة مجموعة كاملة من "التدابير أو السياسات أو الحواجز غير النقدية التي تفرضها الحكومات وتقيد التجارة الدولية في المنتجات أو تمنعها أو تعوقها"، مضيفاً أن الولايات المتحدة ستأخذ ذلك كله الآن في الحسبان عند تطبيق الرسوم الجمركية بموجب سياسات المعاملة بالمثل التي يعتمدها ترمب.
ومرة أخرى تنفست الأسواق الصعداء بصورة جماعية بعدما اتضح أن ترمب لن يفرض الضرائب على الفور، فقد حذر معظم الاقتصاديين من أن هذه السياسات ستدفع معدلات التضخم إلى مستويات شديدة في وقت يحاول ترمب الوفاء بوعود حملته الانتخابية التي تشمل خفض الأسعار من المستويات التضخمية القياسية التي وصلت إليها في عهد سلفه جو بايدن.
وقال ترمب متحدثاً في المكتب البيضاوي إن خطته ستعامل جميع الدول على قدم المساواة استناداً إلى قوانين التجارة الخاصة بكل دولة، "لقد قررتُ لأغراض الإنصاف أن أفرض رسوماً تبادلية وهذا منصف للجميع، ولا يمكن لأية دولة أن تشتكي"، مضيفاً "إذا صنعت منتجك في الولايات المتحدة فلن تكون هناك رسوم جمركية، كان يجب تطبيق هذا منذ أعوام، سنجعل أميركا غنية مرة أخرى".
وكثيراً ما يتذمر الرئيس من العجز التجاري الذي تعانيه أميركا مع بلدان أخرى، حتى البلدان التي تُعد حليفة مقربة مثل كندا والمكسيك، وكثيراً ما يزعم أن العجز التجاري هو دليل على أن الولايات المتحدة تتعرض إلى الاستغلال أو النهب، ونفى أن تؤدي الرسوم الجمركية إلى مزيد من التضخم، وقال لصحافيين "يمكن أن ترتفع الأسعار في الأجل القريب لكنها لن تلبث أن تنخفض"، مضيفاً "في الأجل البعيد ستحقق الإجراءات ثروة لبلادنا".
وما يريده ترمب في جوهره هو العودة للاقتصاد الذي يتذكره عندما كان طفلاً وشاباً قبل أن تبدأ البلدان الأخرى في منافسة الولايات المتحدة عالمياً، فقد ترسخت آراؤه قبل عقود من الزمن، وبغض النظر عن الدروس المستقاة من الأسواق الحرة فمن غير المحتمل أن تتغير آراؤه.
© The Independent