ملخص
يرى مراقبون أن "ما يجري اليوم في الساحل السوري كان متوقعاً حصوله ليلة سقوط النظام، لكن يبدو أن الأمر تأجل ثلاثة أشهر، وما زاد الأمر سوءاً هو تقصير الحكومة السورية في تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب".
خلفت المواجهات بين قوات الأمن ومسلحين موالين للرئيس المخلوع بشار الأسد في الساحل السوري، مئات القتلى من مختلف الأطراف من عسكريين ومناصرين للأسد ومدنيين، وهذه المواجهات العسكرية قابلتها معارك افتراضية على وسائل التواصل الاجتماعي بين السوريين، في ظل انتشار سيل من المعلومات منها الصحيح ومنها المغلوط، وسط صعوبة التحقق من صحة الأخبار السريعة الكثيرة.
ليلة سقوط نظام الأسد شكلت صدمة للسوريين قبل غيرهم، فلا دماء أُريقت ولا مجازر ارتكبت على رغم الجرح الكبير الذي تركه النظام المخلوع في قلوب الملايين، فلا توجد عائلة سورية على الإطلاق إلا وتعرض أحد أفراد أسرتها للقتل أو الاعتقال أو التشريد، بما في ذلك الأقلية العلوية التي ينحدر منها بشار الأسد وعائلته، لذا كان من المتوقع أن تشهد تلك الليلة أعمالاً انتقامية، خصوصاً من المتورطين في جرائم الحرب، إلا أن أياً من ذلك لم يحدث.
لكن مؤيدي النظام السابق يرفضون الحديث عن مجازر ارتكبت معتبرين أن هؤلاء الذين كانوا يقبعون في السجون هم إرهابيون وقاتلون وخارجون عن القانون، وبعد أسابيع من سقوط النظام خرج وزير الداخلية السوري الأسبق محمد الشعار بزي أنيق وهو يُساق لتسليم نفسه للسلطات الجديدة، بل وخرج على وسائل إعلامية متحدثاً عن ظروف حياته على رغم أن المذكور متورط شخصياً بالإشراف على تنفيذ مئات الاعتقالات ومتهم بقتل مساجين تحت التعذيب، فكان "فرط المسامحة" أحد الأسباب التي أثارت غضباً ضد حكومة دمشق الجديدة.
أهداف التحرك
الصحافي عبد الجبار جواش يقول في حديث إلى "اندبندنت عربية"، إن "عوامل عدة تفاعلت لتكوين المشهد في الساحل السوري، أبرزها عامل خارجي واضح باستخدام موالين للأسد لتنفيذ أجندة تعطل المسار السياسي الوليد في سوريا وتخلق حالاً من الاقتتال الأهلي الذي قد يكون عاملاً مسهماً في استجداء التدخل الدولي أو إيجاد بعض الدول موطأ قدم لها من جديد في سوريا، والحديث عن إيران المتهمة الأكبر بذلك، إذ تزامن ذلك أيضاً مع شيوع مزاج انفصالي من قبل 'قسد' في شمال شرقي سوريا وبعض الجهات الفاعلة في مدينة السويداء في الجنوب، ولا يستبعد أن يكون هناك تنسيق بين كل هذه المكونات واختيار ساعة صفر مناسبة لضرب التجربة السياسية الوليدة في سوريا".
ويضيف جواش أن "ما جرى في الساحل السوري من أحداث مؤسفة ليست مفاجئة وإنما كانت متوقعة ومؤجلة تبعاً لسياق ما جرى خلال الأعوام السابقة، وما ارتكبه نظام الأسد بحق حواضن الانتفاضة مستخدماً في ذلك التجييش الطائفي لتعبئة حاضنته من سكان الساحل لتكون أدواته في ممارساته الممنهجة، في ظل غياب آليات حقيقية لمحاسبة مرتكبي الجرائم والتي لا تزال حتى اليوم يتكشف مزيد منها".
ويتابع الصحافي السوري حديثه بأن "النظام في دمشق اليوم قدم خطاباً متوازناً تجاه ما يجري جاء على لسان أعلى هرم السلطة فيه وهو رئيس الجمهورية السورية أحمد الشرع، وكذلك ردود الأفعال الإقليمية كانت تصب في إدانة الهجمات التي قام بها أشخاص مؤيدون للنظام السابق ضد الأمن العام ومحاولتهم ضرب استقرار سوريا، وعليه فإن الحكومة السورية مطالبة اليوم بإيجاد مقاربة متزنة للتعامل مع هذا الوضع الحساس وإعادة فرض سلطة الدولة في الساحل، والحؤول دون وقوع ممارسات خارجة عن القانون ضد المدنيين، وتجنيب سوريا أية سيناريوهات خطرة".
بداية الحكاية
محمد، الذي فضل عدم الكشف عن هويته، هو طبيب في مستشفى الجمعية بمدينة بانياس الساحلية التي شهدت معارك عنيفة، ويروي ما حصل أمام عينيه منذ بداية الأحداث فيقول إنه "في عصر يوم الخميس كانت مناوبتي في المستشفى وكان كل شيء كالمعتاد، أجواء رمضانية جميلة وحياة روتينية يعيشها الأهالي، ولا توجد أية معاملة مختلفة بين سنّي أو علوي في بانياس، وفجأة وصلت رسالة على أحد مجموعات واتساب، أو بالأحرى رسائل عدة منها المكتوب ومنها المسجل، تحمل تهديدات طائفية وتحذر من هجوم عنيف وفيها كثير من الشتائم، وهذه الرسائل وصلت لأشخاص عدة وعائلات لا علاقة لهم بالسياسة على الإطلاق".
ويتابع الطبيب السوري المنحدر من مدينة بانياس حديثه بالقول إنه "في البداية ظننت أن هذه الرسائل ليست جادة، ولكن ذلك قبل أن أسمع أصوات إطلاق النار والتي ازدادت حدتها تدريجاً بعد الإفطار، وبعد ذلك وصل عدد من الجرحى إلى المستشفى فسألتهم ما الذي حصل، وعلمت أن التهديدات التي وصلت كانت جادة وأن تحركاً عسكرياً قد بدأ، ثم جرت محاصرة بانياس وانتشر عدد من القناصة من فوق أسطح الأبنية، ويمكننا القول إنهم سيطروا على بانياس عسكرياً أو على الأقل فرضوا حصاراً عليها، ولم يشارك جميع العلويين في التمرد لكن معظم الذين نفذوا هذه العملية كانوا من الطائفة العلوية، علماً أننا نعيش مع جيراننا من هذه الطائفة منذ عقود ولم يسبق أن حصل مثل هذا".
ويضيف محمد، "أمام مستشفى الجمعية تحصن أحد القناصة التابعين للنظام السابق فوق سطح إحدى المباني وكان يستهدف كل من يعبر الشارع سواء كان مدنياً أو عسكرياً، وللأسف قُتل برصاص هذا القناص عدد من جيراننا من الطائفة العلوية، وهنا يجب أن أؤكد أن المدنيين العلويين الذين قتلوا تسببت أطراف عدة في قتلهم ومن بينهم المتمردون أنفسهم".
ويتابع الطبيب في شهادته أنه "في اليوم الثاني ازداد الأمر سوءاً وظُهر الجمعة تمكنت قوات الأمن من فك الحصار والدخول للمدينة بعد مواجهات عسكرية، وما وثقته بنفسي كان مقتل ثلاثة أشخاص من الطائفة العلوية برصاص قناصة من مؤيدي النظام السابق".
واقع مختلف
أما الشاب السوري حمزة الأحمد، وهو من أهالي مدينة جبلة، فيروي أيضاً شهادته قائلاً إن "الفرق الكبير بين الواقع الذي نعيشه على الأرض وبين ما نشاهده على وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى سبيل المثال أنا أعيش في جبلة وسمعت أخباراً عن جبلة لم تحصل وتفاجأت بهذه الأخبار، فهناك مبالغة كبيرة في وصف الحال ولذلك كانت الأخبار الكاذبة التي انتشرت أحد أهم الأسباب التي أسهمت في تأجيج الوضع بصورة أكبر".
ويضيف الأحمد "لم أكن على علم بأي شيء قبل سماع أصوات إطلاق رصاص من دون معرفة مصدرها، ولم نظن أن المسألة كبيرة إلى هذا الحد لكننا التزمنا المنازل حفاظاً على سلامتنا، وبعد ذلك مرت من أمام منزلنا مجموعة مؤلفة من خمسة أو ستة أشخاص يرتدون الزي المدني ويحملون أسلحة، وقال أحدهم 'سنحرركم قريباً' ثم تابعوا طريقهم قبل أن تتدهور الأمور لتخرج عن السيطرة، وأنا أنحدر من عائلة علوية ونحن لم نتعرض لأي انتهاك من أي طرف".
من المسؤول؟
ويتابع حمزة "لقد حصلت انتهاكات عدة بحق مدنيين من مختلف الأطراف المتصارعة، ولا يمكنني وضع اللوم على طرف واحد دون آخر، فالجميع متورط لكن أنا وعائلتي العلوية ندين هذا التحرك العسكري الذي حصل من قبل مناصرين لنظام الأسد وتسبب في كل هذا".
وفي حديثه يقول ساجد الله الديك، وهو مسؤول عسكري تابع للحكومة في الساحل السوري، إن "أهالي الساحل يعانون وجود مؤيدين للنظام السابق في مناطقهم و ستخدمون المدنيين دروعاً بشرية، لكننا نواصل ملاحقتهم وحماية المدنيين، وألقينا القبض على عدد من الشخصيات المهمة والقيادية في النظام السابق ونواصل ملاحقة الآخرين، ويمكننا القول إن الأمن بدأ يعود بصورة جيدة إلى المنطقة".
سيل من الأخبار الكاذبة
كالنار في الهشيم انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا نبأ "مقتل الطبيبة السورية ناتالي على يد الأمن العام" قبل أن يتضح لاحقاً أن ناتالي هي ناشطة لبنانية وغير موجودة في سوريا أصلاً، ثم نشرت عبر حسابها الرسمي صدمتها من نبأ مقتلها، ومثلها الطبيب بسام سلوم الذي نفى الأخبار التي أفادت بمقتله مع زوجته وعائلته، مؤكداً أنهم بخير، وكذلك الشاب وسام علوش الذي شارك منشوراً عبر "فيسبوك" حول خبر مقتله ساخراً "ادعوا لي".
ناتالي وسلوم وعلوش وغيرهم العشرات ممن انتشرت أخبار مقتلهم على يد الأمن العام خلال اليومين الماضيين خرجوا ليؤكدوا أن هذه الإشاعات مصدرها مؤيدون للنظام لتوريط الأمن العام، إلا أن أحد سكان مدينة القرداحة يقول لـ "اندبندنت عربية" إن "إنكار عمليات القتل التي حصلت لا يعني عدم وجودها"، مضيفاً أن "هناك عمليات قتل جماعي حصلت على أساس طائفي".
ومن جانب آخر يقول الناشط السوري محمد الزير إنه أعطى الأهالي "أرقاماً هاتفية للتواصل مع الأمن العام لحمايتهم من الاعتداءات، فاتصلت جهة بالأمن العام وادعوا أنهم مدنيون يتعرضون للاعتداء، فسارعت دورية لمساعدتهم ليتضح لاحقاً أنه كمين أوقع سبعة قتلى من عناصر الأمن".
الهوية الجامعة
في منشور مطول عبر صفحتها الرسمية على "فيسبوك"، نعت الكاتبة السورية هنادي زحلوط ثلاثة من أشقائها قتلوا على يد فصيل عسكري معارض في بلدة الصنوبر بريف جبلة.
وزحلوط هي كاتبة وناشطة سورية كانت معارضة لنظام الأسد المخلوع، وعلى رغم ذلك تعرض عدد من أفراد عائلتها للقتل، وقالت في تصريحات صحافية إن أشقائها الذين قتلوا "هم معلمون ولم يحملوا السلاح على الإطلاق، ونحن لا نُحمل طائفة بعينها مسؤولية مقتلهم لأن ذلك ما يسعى إليه النظام المخلوع وأذرعه، ويجب محاسبة مرتكبي الجرائم ضد المدنيين في المنطقة لإنهاء حال الاحتقان"، موجهة نداء "بعدم استخدام الخطاب التحريضي والطائفي في وسائل الإعلام، والتأكيد على الهوية السورية الجامعة لبناء البلد بعد أعوام من الحرب".
اعتراف رسمي
مصدر أمني سوري قال في تصريحات خاصة إن "انتهاكات بحق المدنيين حصلت لأهلنا في الساحل السوري وجرى اعتقال عدد من المتورطين في هذه الانتهاكات لمحاسبتهم، إذ يحاول عناصر النظام استخدام المدنيين كدروع بشرية، لكننا حريصون على تجنيب المدنيين أي أعمال عنف، وعلى رغم ذلك قامت مجموعات لم تلتزم بالتعليمات بالمخالفة وتنفيذ انتهاكات نرفضها وندينها، وسنحاسب كل من ارتكب أي اعتداء على أي مدني سوري بغض النظر عن طائفته أو عرقه".
وأضاف، "بالنسبة إلى المدن فهي حالياً آمنة نسبياً، لكن نهيب بالمدنيين عدم الاقتراب من مواقع العمليات العسكرية حفاظاً على سلامتهم، فقد بدأنا مرحلة جديدة من ملاحقة مناصري النظام السابق لضمان إعادة الأمان لكل مدن وقرى الساحل السوري، ولن نسمح ببقاء أي سلاح أو مسلحين خارج إطار الدولة".
أحداث منتظرة
وفي المحصلة مضت العمليات العسكرية في الساحل السوري وسط سيول من الإشاعات والأخبار غير الصحيحة التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي مع التجييش والتحشيد على أساس طائفي، فيما يرى مراقبون أن "ما يجري اليوم في الساحل السوري كان متوقعاً حصوله ليلة سقوط النظام لكن يبدو أن الأمر تأجل لثلاثة أشهر، وما زاد الأمر سوءاً هو تقصير الحكومة السورية في تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة مجرمي الحرب، إذ إن آلاف السوريين لديهم عوامل نفسية تدفعهم للانتقام في حال عدم محاسبة المتهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا خلال الأعوام الماضية، فيما يبدو أن الحل الأمثل للسوريين للخروج من هذه الأزمة هو تلقي الأخبار من المصادر الرسمية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، من دون الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي أو الوقوع في فخ الطائفية، والالتزام التام بالتعليمات الصادرة من الجهات الرسمية"، وبعد انتهاء هذه الأزمة يرى متابعون وجوب التزام الحكومة بمحاسبة المتورطين في الانتهاكات وبدء عمليات محاكمة جادة للمتهمين بارتكاب جرائم الحرب في سوريا.
وفي السياق يرى بعض مؤيدي النظام السابق أن ما يجري هو "قتل على أساس طائفي"، إذ يقول عباس الحسن، وهو من أبناء حي القصور في مدينة بانياس وينتمي للطائفة العلوية، إن "مسلحين تابعين للحكومة دخلوا الحي وأطلقوا النار عشوائياً على المدنيين، فقتلوا نساء وأطفالاً لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا من الطائفة العلوية"، معتبراً في حديث خاص أن "الاعتراف بوقوع انتهاكات لا يكفي والمطلوب وقف هذه الإبادة على الفور ومحاسبة كل من اعتدى على أي مدني سوري، والتبرير بأن هؤلاء فلول غير منطقي، فلا يمكن لعجوز أو طفل أن يكون فلولاً، وكل ما نريده اليوم أن نعيش بسلام، وأنا أؤكد أني لست ضد ملاحقة مسلحين متمردين لكن كل هذا لا يبرر الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين على أساس طائفي، فهذا يسمى انتقاماً وليس ملاحقة فلول".