ملخص
"أشياء صغيرة" Riens هو عنوان كتاب المفكر الفرنسي والأديب والمثقف الموسوعي ريجيس دوبريه (مواليد 1940) الصادر حديثاً في باريس عن دار غاليمار (2025). هو عبارة عن مجموعة من التأملات والذكريات الذي لا يزال المفكر الثمانيني يدأب على نشرها، التي تظل على صلة وثيقة بواقعنا المعاصر، كتفكره في مصير الاتحاد الأوروبي والعلمانية والشيخوخة وبمجمل أعماله وحياته.
يستعيد ريجيس دوبريه بأسلوبه الحيوي اللاذع، شذرات جميلة من سيرته التي تشبه الروايات المليئة بالمغامرات ونشوة السلطة والتحليق في سماء الأدب منذ سن الرابعة حتى الـ85، معرجاً على بعض التحديات والمواقف الطريفة التي واجهته، علماً أن الكتاب لا ينتمي إلى المذكرات بالمعنى الحرفي للكلمة، بل يحمل في طياته نوعاً من الاعترافات والانتقادات التي يوجهها الأديب إلى أبناء جيله.
في هذا الكتاب، يستحضر ريجيس دوبريه باريس التي كان يعشق فيها المسرح الوطني الشعبي، والممثل جيرار فيليب الذي توفي في عز شبابه، وتجربة السجن في بوليفيا التي تركت لديه ذكريات مريرة، هو المتبحر في الدراسات اليونانية القديمة في عالم أهمل تعلم اللغات الكلاسيكية، والوريث لثقافة إنسانوية بدأت بالاندثار، والمثقف المتأثر بالأفكار الماركسية في زمن كان فيه للصراع الفكري معنى.
رفيق تشي غيفارا ومستشار الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران، ومطلق علم الوسائط، وناقد الرأسمالية ومجتمع الاستهلاك والصورة وآثار التكنولوجيا على الثقافة والحضارة، والعضو في لجنة تحكيم أدبية، والصحافي الذي كتب مقالات وخطباً، والأديب الذي وقع عديداً من الكتب كـ"سلطة المثقفين في فرنسا"، و"الثورة في الثورة"، و"نقد العقل السياسي"، و"دروس في الميديولوجيا العامة"، و"حياة وموت الصورة"، و"النار المقدسة"، و"خطأ في الحساب"، و"القرن الأخضر" و"حيث أعمدة حية" وغيرها.
من تشي غيفارا إلى برنارد بيڤو، كانت حياة دوبريه المتقلبة مكرسة لرموز ومفاهيم كبرى كالثورة واليسار والأمة والأدب. ولكن ما الذي يبقى من كل هذه المفاهيم حين يحل مساء العمر؟ موقد مشتعل ومنزل ريفي ومكتبة وذكريات تتراقص على ضوء النيران. ولئن "كان لا بد من أشياء كبيرة وعديدة لصنع عالم، فلا بد أيضاً من أشياء صغيرة لصنع حياة".
أحداث صغيرة وكبيرة
في "أشياء صغيرة" يستعرض ريجيس دوبريه إذاً تلك الأحداث الصغيرة التي منحت لحياته كثافة ومعنى، والتي بقيت آثارها مطبوعة في نفسه كرسم على حجر، حملها دوماً في قلبه رغم ما مر عليه من تجارب حياتية قاسية ونضالات فكرية وسياسية. وها هو ذا يعترف أن الحروب لم تعد تخاض بالأفكار بل بالصور، وأن كل شخص قد أصبح اليوم منشغلاً بذاته وبصوره، وأن الصورة حولت السياسي مثلاً إلى مجرد مقدم برامج، وأن "القلم لم يعد سيفاً"، رغم عدم تنكره للأدب وللفكر اللذين سيظلان سلاحه في عالم معاد، معرباً عن خيبة أمله في السياسة، هو الذي كان دوماً مؤمناً بسمو القضايا والعمل السياسي النبيل.
لا يبخل دوبريه على قرائه بنقده الساخر لكل شيء يضخم في فرنسا وهو بلا قيمة حقيقية، مثل تحويل الثقافة إلى "شيكات ثقافية"، أو التباهي باللغة الفرنسية كإرث يعرض في المتاحف والقصور، أو بشعارات الجمهورية الثلاثة "حرية، مساواة، إخاء"، التي يستمر الحفاظ عليها فقط لأنها لا تلزم أحداً بشيء، متسائلاً عن معنى ثرثرة الفرنسيين الأبدية عن الاندماج واللطف والتضامن مع الآخرين، بينما يخفي مفهوم الإخاء في الواقع صراعات دامية. أما عن البذخ في الرحلات والمآدب الرسمية، فيراها مجرد تضخيم للذات السياسية على حساب المال العام، محدثاً إيانا عن تجربته كمستشار لرئيس الجمهورية ودوامة المناورات السياسية وقراره بمغادرة دوائر السلطة بعد الإعلان عن قيام الاتحاد الأوروبي ونهاية السيادة الفرنسية لصنع كيان أوروبي كثيراً ما أعتقد أنه مستحيل.
خيبة الأمل
وفي الكتاب أيضاً إقرار أن الحياة "مخيبة للآمال" وأن الإنسان لا يعرف ماذا يفعل بها حتى تنتهي. ولعلها كما قال ميلان كونديرا في رائعته" خفة الكائن التي لا تحتمل"، "لا تمنح فرصة ثانية". فعندما تنتهي الحياة، يحين وقت تقديم نسختها النهائية التي يضعها الإنسان من دون مسودة أو إمكان تعديل. ولعل نسخة دوبريه ستجد مكانها بلا شك على رفوف مكتباتنا، لتلهم أجيال المستقبل، أولئك الذين يرغبون في الابتعاد قليلاً عن زخم اللحظة العابرة والذين يبحثون من طريق آخر ويعيدون النظر في تفاهات العصر التي يراد فرضها عليهم.
قد يقول البعض، إن هذا الكتاب لا يحمل أفكاراً جديدة، لكن ما يميزه هو القدرة على كشف التناقضات، والدعوة إلى الوضوح أمام كل ما يبدو بديهياً والتعامل مع الأفكار بحذر، لأن المشاعر والروايات بحسب ريجيس دوبريه هي التي تحرك الإنسان لا الأيديولوجيات وإن إحياء الماضي كارثي. ذلك أننا عندما نستدعي الأشباح التي نريدها، نوقظ أيضاً الأشباح التي لا نريدها.
على تتالي صفحات الكتاب 144 التي تحكي حياة الكاتب وانطباعاته بسرد بديع يتبع تسلسلاً زمنياً يتيح التأمل، وكأنه ذريعة، في الانقطاعات والانتماءات لجيل معين، يكتشف القارئ نظرة دوبريه الثاقبة للأحداث التي تتسارع على مسرح العالم كالأمركة والعيش بلا ذاكرة وغيرها من الموضوعات الراهنة، واللقاءات والصداقات التي عقد ذات يوم أواصرها ولم تتلاشَ أبداً، كالصداقة التي ربطته ببرنارد بيڤو وفرنسوا ماسبيرو وكريس ماركر وستيفان هيسيل وسيمون سينيوريه وجوليان غراك وإدغار موران.
بعيداً من الكلمات الرنانة والنصوص الكبيرة، يختار دوبريه أن يكتب إذاً شؤوناً وأشياء صغيرة قد يعتقد البعض أنها تافهة، لكنها في رأيه هي التي تصنع الحياة.
إن قراءة هذا الكتاب الصغير ستباغت القارئ أكثر مما يعتقد. ذلك أن تلميذ الناشرة أدريان مونييه التي علمته حب الكتب، وصديق تيليناك الذي علمه الشغف بالغرائبية، وعاشق المسرح، يعيش الآن خارج باريس، وسط الطبيعة والفصول المتعاقبة، لكنه يحمل في داخله شوارعها وجسورها، والقفازات الرمادية التي كان يرتديها قديماً الرهبان في جانسون، ويتجول كشبح في شارع أولم، ليمنحنا مرة أخرى، ما يدفعنا إلى الحلم، واضعاً الأدب في مجابهة المأسوية التي تلف العالم.