ملخص
"لا أرض أخرى" الفائز أخيراً بجائزة "أوسكار" أفضل فيلم وثائقي، نتاج تعاون بين الفلسطيني باسل عدرا المقيم في قرية مسافر يطا المحتلة، ويوفال أبراهام الصحافي الإسرائيلي من بئر السبع المتضامن مع القضية الفلسطينية.
أحدث فوز فيلم "لا أرض أخرى" بعض الضجة والبلبلة في بعض الأوساط الثقافية المسيسة، وأعاد إلى الضوء فيلماً كان "ضائعاً" مذ فاز قبل عام بجائزة أفضل وثائقي في مهرجان برلين السينمائي، مثيراً حينذاك جدالاً من نوع آخر، إذ لم يعجب الواقفين في صف إسرائيل في ألمانيا. ورغم أن الفيلم يتناول الصراع الطويل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مقدماً صورة من الداخل عن تلك المعاناة في مواجهة الظلم المستمر، فهو تمكن من الوصول إلى جائزة هوليوود الشهيرة التي يهيمن عليها اللوبي اليهودي، كما ادعى طويلاً بعض العرب. هذا الفوز لم يعفه من الاتهام الذي لا يستند إلى دليل، بأن الشراكة الإخراجية مع الإسرائيلي هي التي فتحت أمامه أبواب الاعتراف، ولولا هذه "الوصاية" لكان استحال عليه الفوز.
جميعنا قد يكون محقاً إلى درجة ما في تكهن افتراضات تبقى في نهاية الأمر بعيدة من الواقع أو تتقاطع معه بعض الشيء، ولكن يصعب الانكار بأن هذه الـ"أوسكار" ليست تكريماً لمهارات سينمائية، بل إشارة إلى الاعتراف بالجهود الكبيرة التي بذلت والتضحيات والشجاعة التي وضعت طوال الأعوام الخمسة التي استغرقها التصوير. هذا من دون أن ننسى أن النص يقدم رؤية لا تخلو من الأمل، يأتي غداة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 المشؤوم. فرغم الصورة القاتمة، يشجع الفيلم على الإيمان بحل للقضية، والحل يتطلب عدم الابتعاد تماماً من فكرة التلاقي والحوار. غالب الظن أن هذا الأمل هو ما وحد المصوتين، وأسهم في شرع الطريق أمامه إلى الجائزة.
لم يتردد باسل عدرا في زج حياته في دائرة الخطر وهو يصور الانتهاكات، إذ استلقى أمام الجنود، غير عابئ بالأسلحة والقوة التي تهدده. وبذلك، أصبح الفيلم أكثر من مجرد عمل فني توثيقي، مما يؤكد مرة جديدة أن المصوتين على الجائزة يتوقعون من المرشحين الآتين من أرض النزاعات أن يدفعوا باللحم الحي، مقابل الاعتراف بهم.
الخاص والعام
ورغم أن الفيلم لا يضيف جديداً على مستوى المحتوى، مقارنةً مع أعمال أخرى تناولت الأوضاع في فلسطين، فإن تمحوره على الشاب الفلسطيني الطموح والعنيد باسل عدرا، يعطيه طابعاً مغايراً، إذ يتقاطع العام بالخاص لتوثيق تفاصيل معركة مستمرة لأبناء القرية الصغيرة (مسافر يطا في جبال الضفة الغربية) ضد محاولات تهجيرهم وهدم بيوتهم واستبدالها بثكنات عسكرية. هذه المعركة ليست من أجل قضايا لوجيستية، بل صراع على الهوية والوجود والحياة بكل ما تحمله الأخيرة من معانٍ تتضاعف تحت وطأة الأزمات وغريزة البقاء.
الفيلم أكثر من سرد تاريخي للمنطقة، بل شهادة على التفاوت في مجال الحريات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. بينما الإسرائيليون يتنقلون بحرية بين مدنهم وقراهم، يضطر الفلسطينيون أصحاب الأرض للعيش في حال من الترقب والخوف المستمر، حياتهم تتحكم فيها قرارات خارج إرادتهم. القوة هي التي تحدد من يملك الحق في العيش أين ومتى.
باسل عدرا الذي ولد ونشأ في مسافر يطا، يروي لنا قصته الشخصية وصراع عائلته ضد الممارسات الإسرائيلية. بينما يوفال أبراهام، الآتي في بئر السبع، يقدم لنا رؤيته كإسرائيلي لا يتوانى عن استخدام منصته الإعلامية للحديث عن هذه القضية. يتقاطع الاثنان في الفيلم في لحظات كثيرة، في إشارة إلى الفرق الواضح بين موقع كل منهما حيال ما يحدث. يوفال، الذي يشعر بواجبه الأخلاقي لدعم الفلسطينيين في مسعى نادر للعدالة، يرى نفسه في موقف مختلف عن غالبية الإسرائيليين، ذاك أنه يختار الانحياز للحق من خلال رفضه الانضمام إلى الجيش والعمل في مجال الصحافة الاستقصائية. أما باسل، الذي نشأ على مبدأ مواجهة هذا الواقع، فلا يعرف إلا طريق المقاومة، مهما كان الثمن. الصداقة التي ستتبلور بينهما، ما هي إلا دليل على محاولة مشتركة لفهم الاختلافات وتجاوز الحواجز التي باتت، خصوصاً بعد السابع من أكتوبر، لا حل سواها.
صراع واتفاق
يكشف الفيلم اختلافات جوهرية في طريقة فهم كل منهما للصراع ولو أنهما متفقان على الأساسيات. يوفال قادر على الانسحاب من الميدان في كل مرة يشعر فيها بأنه فعل ما يكفي لكي يريح ضميره، بينما باسل لا يعرف سوى المواجهة المستمرة التي تضمن له البقاء. يوفال اختار أن يكون مناضلاً في ظل توافر خيارات أخرى أمامه، بينما باسل يعي تماماً أنه مسير لا مخير. يوفال يرى في عمله ناشطاً، وسيلة لحماية نفسه من تهديدات المستقبل، بينما باسل يراه ضرورة للنجاة اليوم. في هذا السياق، يتعامل الفيلم مع معركة مستمرة بين الظالم والمظلوم، مع تمسك بالفكرة الأساسية: إصرار على الحياة من جهة، وقرار متواصل لتدمير هذه الحياة من جهة أخرى.
نشعر بأهمية الصورة في عالمنا الحالي، لكون الفيلم يعتمد في شكل أساس على التصوير كأداة توثيقية تكشف الحقيقة. وعليه، تتنقل الكاميرا بين مشاهد الغضب والصراع، ناقلة اعتراضات أهل القرية الرافضين لإجراءات الهدم. لكن لا حياة لمن تنادي. الجرافة التي تسحق كل شيء، آلة البطش التي لا تترك أثراً سوى الخراب، هي التي تقرر!
من الناحية البصرية، يوازن الفيلم بين مشاهد عفوية استخدمت لما تحمله من دلائل على ارتكابات إسرائيل، وأخرى دخيلة ملتقطة بعناية كما في أي فيلم روائي. هذه الثنائية تثير الشكوك حول صدقية الفيلم، خصوصاً أن بعض المشاهد تبدو مصممة في شكل يتجاوز حدود الواقع، مما يمدنا بالإحساس أنها اصطناعية ومفبركة. في هذا الصدد، هناك سؤال يلح: إلى أي مدى من الممكن أن نصدق ما يقوله لنا الفيلم، وكيف يمكن الفصل بين ما يتجسد عفوياً وما هو مقحم على الأحداث من مشاهد "مدبرة" تحمل نفساً درامياً، خصوصاً أن المخرج لديه تلك النزعة الاستعراضية، مدفوعاً بالرغبة والحاجة إلى نقل معاناته ومعاناة ناسه إلى العالم.
أحد الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى باسل عدرا هو حضوره الطاغي في الفيلم. فهو لا يترك مساحة لأي شخص آخر ليظهر بوضوح، بل ويهيمن على المشهد وكأن الآخرين مجرد كومبارس. الجميع في حياته يلتف حوله، بينما هو في مركز هذا العالم الذي يبدو مغلقاً على ذاته.
لا يتبع "لا أرض أخرى" الأسلوب التقليدي للوثائقيات الغاضبة التي تنطوي على المفردات النضالية والشعارات الثورية. هنا، لا نجد خطباً حماسية أو تعبيرات عاطفية مكررة حول القضية التي تشغل العرب، بل بحث في تجارب الأفراد وحيواتهم اليومية في سياق معاناتهم، بعيداً من التنظير والشعارات. نكتشف الواقع ببساطة وصدق، من دون تجميل أو محاولة لتفخيم الأمور.