ملخص
ظهر اسم "جيش تحرير بلوشستان" الذي تُدرجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة ضمن الجماعات المحظورة وتتعامل معه على أنه جماعة إرهابية عندما قامت انتحارية "شاري بلوش" باستهداف حافلة المعلمين الصينين تابعة لمركز تعليم اللغة الصينية داخل جامعة كراتشي في أبريل 2022.
قطع قطار "جعفر إكسبريس" 157 كيلومتراً من طريقه إلى مدينة بيشاور ظهيرة الـ11 من مارس (آذار) الجاري عندما أصيب بانفجار شديد أثناء مروره بأحد الأنفاق في مقاطعة بولان الجبلية، كان الانفجار كافياً لعرقلة القطار وتخويف المسافرين البالغ عددهم 440 الذين هرعوا إلى تأمين عائلاتهم مدركين أنهم قد وقعوا في فخ "جيش تحرير بلوشستان" الذي كثفت هجماته على وسائل النقل في إقليم بلوشستان خلال الأشهر الأخيرة.
حاصر عدد كبير من مسلحي جيش تحرير بلوشستان القطار، وبعد إطلاق النار لمدة ساعة تقريباً دخلوا القطار واحتجزوا المسافرين بحسب شهود عيان بعد تقسيمهم في مجموعات بناءً على عرقياتهم لتتم تخلية سبيل بعض العائلات فيما تم الاحتفاظ بأكثر من 200 مسافر من بينهم عدد كبير من عناصر الأمن الباكستاني العائدين إلى منازلهم لقضاء العطلة السنوية.
وعلى رغم تكرار حوادث العنف في إقليم بلوشستان، فإن خبر الهجوم على القطار واحتجاز المئات من المسافرين أدهش الشارع الباكستاني وتسارعت وسائل التواصل الاجتماعي في تغطية الحدث، بينما تابع الإعلام الهندي أيضاً التطورات من كثب، كما أدركت السلطات أن مثل هذا الهجوم المنظم يعتبر فضيحة كبرى للأنظمة الأمنية والعسكرية، لذا تسارع الجميع في قطع المعلومات أولاً، ثم في التخطيط لمعالجة الأزمة، وبعد 30 ساعة من التوجس والقلق، أعلن المتحدث الرسمي باسم الجيش "نجاح" العملية العسكرية والقضاء على جميع المسلحين وإطلاق سراح المحتجزين.
وقال المتحدث "شارك كل من الجيش والدفاع الجوي والقوات الخاصة في العملية التي تمت على مراحل ضد الإرهابيين الذين كانوا على تواصل مع مخططي الهجوم في أفغانستان أثناء العملية، ونفذت القوات الباكستانية العملية بدقة وتمكنت من القضاء على 33 إرهابياً، فيما قتل أربعة من عناصر الأمن إضافة 21 مدنياً قتلوا على يد المحتجزين".
جاءت هذه العملية بعد أيام من إعلان تحالف "براس" للجماعات الانفصالية المسلحة عن تشكيل استراتيجية جديدة وموحدة لضرب المصالح الباكستانية وتكثيف الأعمال العسكرية، كما أثارت العملية تساؤلات عدة حول الحالة الأمنية السيئة في بلوشستان ومدى قوة "جيش تحرير بلوشستان" التي باتت تنظم هجمات كبيرة على المقار الحكومية وعناصر الأمن ووسائل النقل العامة.
من المطالبة بالحقوق إلى السعي إلى الاستقلال
تعود جذور الحركات المناهضة للدولة في بلوشستان الذي يشكل 43 في المئة من مساحة باكستان إلى خمسينيات القرن الماضي، إذ أثيرت تحفظات حول طريقة دمج بلوشستان في الدولة حديثة الاستقلال، وشهد الإقليم موجات عدة من التمرد خلال العقود الثلاثة الأولى من الاستقلال.
لكن هذه الثورات لم تكن واسعة النطاق فيما كانت مطالبات القيادة السياسية البلوشية تدور حول إعطاء الحقوق للإقليم الغني بالمعادن والثروات واحتياطات الغاز واستقلالية بعض القطاعات عن الحكومة الفيدرالية، وتتابعت المحادثات حيناً والخلافات أحياناً أخرى بين ممثلي الحكومة وزعماء القبائل البلوشية إلى 2006 الذي كان عاماً محورياً في تاريخ الأزمة.
أكبر بوغتي، زعيم قبيلة بوغتي الشهيرة والقريب من دوائر الحكم في إسلام آباد وأحد أكثر الشخصيات البلوشية نفوذاً كان على مفترق الطرق مع الحاكم العسكري برويز مشرف حول قضية اغتصاب فتاة في منطقة سوي، معقل بوغتي، على يد لواء في الجيش الباكستاني، إذ كان يطالب بوغتي بمحاسبة المشتبه فيه في القضية بينما وقفت قيادة الجيش خلف المتهم ورفضت ادعاءات الضحية.
وبين إصرار بوغتي على المحاسبة وعناد مشرف على التغاضي توترت أجواء "سوي" وأخذ مسلحون من قبيلة بوغتي القانون في يدهم وخربوا بعض المقار الحكومية لترد الحكومة بإجراءات عنيفة بعد فشل المحادثات مع بوغتي، ووصل الحال إلى أن لجأ بوغتي في الجبال، بينما شنت القوات الباكستانية غارات جوية على المنطقة، وبعد أيام من المواجهات دمرت الملاجئ بالبارود الثقيل وطويت صفحة أكبر بوغتي، أو هكذا ظن الجيش حينذاك.
طار الغطاء الذي كبت غضب البلوش لعقود بمقتل أكبر بوغتي وأثار رد فعل عنيفاً بين الشباب المحليين الذين لجأوا إلى العنف والجماعات المسلحة في مواجهة الدولة، أبرز تلك الجماعات التي انضم إليها الشباب كانت "جيش تحرير بلوشستان" التي أسست مطلع القرن الحالي، لكنها لم تقم بأعمال جديرة بالذكر إلا بعد مقتل أكبر بوغتي، وتحولت مطالب الحقوق إلى حركة مسلحة للاستقلال عن باكستان.
كيف ارتفعت إمكانات "جيش تحرير بلوشستان"؟
واجه "جيش تحرير بلوشستان" بعد مدة قصيرة من توجه الشباب إليه انقساماً داخلياً، إذ انفصل اثنان من القادة الشباب، أسلم بلوش وبشير زيب، الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة المتعلمة في الجيش عن القيادة الرئيسة، وأصبح الفصيل الجديد بقيادة بلوش وزيب أكثر نشاطاً من الجماعة الأم، إذ بدأ بتكثيف هجماته والتركيز على نشر مقاطع الهجمات ومنشورات الحركة إلى جانب تجنيد الشباب البلوش.
وخلال الآونة الأخيرة زادت وتيرة هجمات "تحرير بلوشستان" الإرهابية على المرافق الحكومية والمشاريع الصينية وقوات الأمن، إذ راح أكثر 200 شخص ضحية أعمال العنف خلال العام الماضي الذي شهد زيادة بنسبة 119 في المئة في هجمات الجماعات الانفصالية البلوشية.
وبرز اسم "تحرير بلوشستان" الذي تدرجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة ضمن الجماعات المحظورة وتتعامل معها على أنها جماعة إرهابية عندما قامت انتحارية "شاري بلوش" باستهداف حافلة المعلمين الصينين تابعة لمركز تعليم اللغة الصينية داخل جامعة كراتشي في أبريل (نيسان) 2022.
ويعمل "تحرير بلوشستان" كجيش منظم في جمع المعلومات وتقسيم الأدوار والقيام بالمهام، إذ يشرف "لواء مجيد" على تجنيد وتدريب الانتحاريين فيما تعمل "جناح ضرياب" على جمع المعلومات الاستخباراتية ويتخصص "فرقة فتح" في تحديد الهدف، بينما تعمل "الفرقة الخاصة" على اغتيال أو خطف الشخصيات المستهدفة.
علاوة على ذلك، يهتم "جيش تحرير بلوشستان" بصورة كبيرة على العمل الدعائي ونشر المقاطع والبيانات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتنشر الحسابات التابعة للحركة إلى جانب مقاطع العمليات شهادات مطولة للانتحاريين الذين يحمل بعضهم شهادات جامعية، ويمكن فهم مدى اهتمام الحركة المتمردة بالإعلام من وجود حسابات على منصة "إكس" و"يوتيوب" باللغة العربية التي لا يكاد يتحدث بها أحد في بلوشستان، لكن هذه الحسابات تنقل التطورات أولاً بأول وتنشر سردية الحركة إلى المتابعين العرب.
وفي خضم حال عدم الاستقرار السياسية في الإقليم وغياب النزاهة في الانتخابات وصرف الموازنة، إضافة إلى استبعاد القوى المدنية، تضع الدولة شريحة كبيرة من الشباب البلوش عرضة لحملات المتطرفين الدعائية.
من جهة أخرى يتمحور مشروع الطريق التجاري الباكستاني - الصيني حول بلوشستان، إذ يهدف إلى ربط المدن الصينية بميناء غوادر العميق فيما يحوي مشاريع تنموية عدة في الإقليم، ويرفض "تحرير بلوشستان" الوجود الصيني في الإقليم باعتباره رمزاً لاستغلال الموارد البلوشية واحتلال أراضيها من دون موافقة الشعب البلوشي، وتم استهداف المنشآت الصينية في الإقليم مرات عدة خلال السنوات الأخيرة، مما أدى إلى عرقلة المشاريع ومنع الاستثمارات الجديدة.
ويرى بعض الخبراء أن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان سهلت للانفصاليين الحصول على الأسلحة الجديدة التي خلفتها القوات الأميركية وأصبحت متداولة بين التجار السوق السوداء والجماعات الإرهابية.
من جانب آخر تدعي الحكومة الباكستانية تورط الهند في الدعم المالي واللوجيستي للحركات الانفصالية البلوشية وتقدم في هذا السياق اعتقال المواطن الهندي كولبهوشان ياديف المحكوم عليه بالإعدام في قضية التخابر والتخطيط للأعمال الإرهابية دليلاً على هذه الادعاءات، كما تشير التقارير إلى وجود ثكنات للجماعات الانفصالية المسلحة في إيران وأفغانستان، لكن هذه الدول تنفي تورطها في الأزمة بأية صورة من الصور.
أخيراً، لا يمكن للسلطات الباكستانية مواجهة تهديد جيش تحرير بلوشستان من خلال استخدام القوة المفرطة أو اتهام الجهات الأجنبية فحسب، بل لا بد من وضع استراتيجية شاملة تقوم على التواصل مع القوى المدنية وإجراء انتخابات نزيهة وخطة إصلاح وتطوير للإقليم بمشاركة ممثليه المنتخبين.