ملخص
كانت من العمليات اللافتة في قسوتها معارك حرستا التي قرر دلا حينها استخدام صواريخ "جولان" فيها، وهي صواريخ محلية الصنع، رديئة التصنيع، تفتقر للدقة في التصويب، مما حقق هدفاً مثالياً من استخدامها في تدمير وتهجير السكان من الضاحية الكبرى جنوب دمشق على مدخل أوتوستراد دمشق - حمص.
برز أخيراً اسم العميد الركن السابق في الفرقة الرابعة غياث دلا التي كان يقودها ماهر الأسد على ساحة التطورات السورية الأخيرة إثر قيامه بالإيعاز لمجموعات من فلول النظام السابق لمواجهة السلطة الحالية عبر نصب الكمائن والمواجهات المباشرة التي أسفرت عن مقتل المئات، فيما كان يرقى ليكون محاولة انقلابية فاشلة تمكنت السلطات السورية من وأدها بعد أن اشتعلت شرارتها في السادس من مارس (آذار) الجاري. فمن هو غياث دلا؟
العميد الركن
غياث دلا هو عميد ركن في قوات الفرقة الرابعة التي كان يرأسها ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع بشار الأسد. ينحدر دلا من قرية بيت ياشوط في قضاء مدينة جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية الساحلية، وكان قائداً للواء 42 دبابات قبل سقوط النظام السوري. وهو ذات اللواء الذي شغل ماهر الأسد قيادته لأعوام قبل ترقيته لرتبة لواء وتسلمه قيادة الفرقة الرابعة.
ومع تسلم ماهر الأسد زمام قيادة الفرقة المدرعة، اعتمد على أشخاص من ذوي الثقة ليشغلوا المناصب القتالية والإدارية الرفيعة داخل ملاك عمله، وكان على رأسهم اللواء غسان بلال في إدارة شؤون مكتبه وإدارة مكتب أمن الرابعة المعني بالجباية والدولار والحبوب المخدرة. فيما جرى الاعتماد على دلا وضباط آخرين في الأعمال القتالية المباشرة على مختلف الأراضي السورية، وإن كان معظمهما متمركزاً في دمشق، تاركاً خلفه مجازر وانتهاكات ودماراً لا تزال شاهدة على وحشية طريقة إدارته للعمليات العسكرية.
الخلفية العسكرية في الحرب السورية
مع اندلاع شرارة الأحداث في سوريا منتصف مارس عام 2011، سرعان ما أسندت المهام القتالية وجرى توزيعها بين الفرق العسكرية والأمنية. وكان من نصيب دلا قيادة عمليات الجيش السوري في مواجهة المعارضة في معضمية الشام (دمشق)، وهي ضاحية على أطراف العاصمة. كان ذلك في التاسع من مايو (أيار) 2011، حيث قام مع قواته بتطويق المنطقة لمدة شهر تقريباً قبل اقتحامها بالآليات المدرعة والثقيلة، مما أفضى لاعتقال أكثر من 1000 شخص داخلها خلال الحملة.
في أواخر عام 2011، أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" تقريراً بعنوان "بأي طريقة: مسؤولية الأفراد والقيادة عن الجرائم ضد الإنسانية في سوريا". يتحدث عن الطريقة الهمجية والوحشية التي تتبعها الفرقة الرابعة في مواجهة معارضيها خصوصاً والسوريين عموماً.
وبالتزامن، شهدت المعضمية ومدينة داريا القريبة في محيط دمشق عملية متزامنة في أغسطس (آب) عام 2012، شارك فيها الضابط دلا واعتمد ذات الأسلوب بالمحاصرة والتجويع والقتل المباشر، مما أسفر عن مجزرتين برزت من بينهما ما عُرف بمجزرة داريا الكبرى التي تحدثت مصادر حقوقية في حينها عن مقتل نحو 700 شخص بسبب العملية.
وقتذاك، لم تكن مدفعية الميدان والطائرات حاضرة في ذلك الوقت المبكر من عمر الثورة، إلا أن العميد نفسه قاد عملية أخرى ضد المنطقة (المعضمية) أوائل عام 2013، مستخدماً أسلحة ثقيلة خلفت دماراً واسعاً وأعداداً كبيرة من القتلى بينهم نساء وأطفال، ومجدداً كثيراً من المعتقلين.
الضابط الموثوق
لما كان قد أثبت دلا نفسه واحداً من الأشخاص الثقة الذين يمكنهم الضلوع بالأدوار المنوطة بهم وتنفيذ التعليمات العسكرية بدقة بل وتجاوزها بحسب ما يفرضه الميدان، جرى الاعتماد عليه في المشاركة أو قيادة عمليات منفردة متنقلاً بين أحياء وضواحي وأرياف دمشق طيلة أعوام الثورة الأولى. وعليه كان واحداً ممن أشرفوا على تهجير وقتال أهالي حي القابون في دمشق عام 2011، مع اعتقال ما يربو على 1500 شخص من ساكنيها بحسب توثيقات من منظمات غير حكومية حينذاك.
وكحال المعضمية، عاد حي القابون ليشهد حملة عسكرية مكثفة مجدداً عام 2012 بقيادة دلا الذي لم يترك المنطقة هذه المرة حتى هجر نحو 90 في المئة من سكانها تحت وابل القصف والقنص واشتداد العمليات القتالية، بحسب شهادات لناجين من المجزرة قالوا لـ"اندبندنت عربية"، إن دلا حينها استخدم سياسة الأرض المحروقة عبر القصف العشوائي الذي تعدى مرحلة المواجهة مع مسلحي الثورة ليشمل قصف العائلات المدنية التي لم تجد بديلاً من الرحيل قسرياً.
عبدالمعتصم بويضاني أحد الناجين من مجزرة القابون، الذي التجأ للعاصمة دمشق، قال لـ"اندبندنت عربية"، إن اسم الضابط دلا ارتبط بمعظم مجازر العاصمة دمشق وريفها، وكان اسمه يثير الهلع بين الناس، مؤكداً أنه كان محاطاً بعناصر كثيرين يدينون بالولاء له، وأنه كان مدعوماً بالصواريخ والراجمات التي كان يستهدف بها مواقع مدنية، مما أوقع أعداداً كبيرة من القتلى بين أبناء حيه، فيما تمكن البقية من النجاة تحت وطأة الخوف من قوات شخص بات اسمه مرتبطاً بالتهجير والإفراط في استخدام القوة.
الحال الميليشياوية
في الأثناء، بدأ جيش النظام يفقد قواه ومعداته تدريجاً، وكان يعاني صعوبات جمة في استقدام الجنود للخدمة الإجبارية، ويعاني من حالات الفرار الكثيرة في صفوفهم، مما استدعى سياسة تشكيل مجموعات مدنية وعسكرية داخل الجيش تعرف بولائها المنقطع النظير لقياداتها.
ومن هنا سُمي اللواء سهيل الحسن "النمر"، وباتت قواته الخاصة تسمى "قوات النمر"، وتلك القوات بدورها تنقسم إلى عديد من المجموعات، من بينها "الطراميح" و"السحاب" و"الفهود"، وعلى رأس كل منها قائد يرتبط مباشرة بالحسن.
ولم يكن الأمر ببعيد عن دلا الذي شكل بدوره قوات "الغيث" التي كان قوامها الأساس 500 مقاتل من المتطوعين والإجباريين الذين عاهدوه على استمرار القتال وفق منطق الولاء التام لـ"القيادة"، ولاحقاً ضم دلا إلى مجموعته عناصر قتال من ميليشيات عراقية وإيرانية وقوات من "الشبيحة" من دون الإعلان بشكل صريح، مما مكن الجيش من استعادة زمام المبادرة من جديد بعد أن حول نفسه إلى قطعات من الميليشيات التي يلعب فيها المدنيون دوراً كبيراً، وهو الطريق الذي اتبعه دلا خلف الحسن (النمر) الذي كاد يستغني عن المتطوعين لمصلحة آلاف المقاتلين المدنيين الذين وزعهم ضمن مجموعاته القتالية تحت مسمى الجيش السوري.
بعد ذلك، شاركت قوات "الغيث" في حصار بلدة المليحة في ريف دمشق لنحو شهر ونصف في عام 2014، ليصار إلى تكليف دلا بقيادة عمليات المنطقة التي قام بتدميرها عبر الصواريخ والقصف الجوي الذي لم يكن يشكل فارقاً يعتد به أمام الصواريخ الأرضية لضعف إمكانات سلاح الجو السوري. وكان كل ذلك قبل تدخل القوات الروسية على خط الصراع وقلبها موازين القوى بشكل كامل عام 2015 لمصلحة جيش النظام السوري، مستندة في المقام الأول على سلاحها الجو-فضائي.
وتنسب إلى دلا كل من معارك ومجازر حتيتة الجرش، والدخانية، والكباس، وزبدين، وبالا، ودير العصافير، والزبداني، والديرخبية، وخان الشيح، وبيت جن، وأحياء القابون، وتشرين، وبرزة، وجوبر في دمشق، إضافة لمشاركته في معارك وادي بردى مطلع عام 2017.
وكانت من العمليات اللافتة في قسوتها معارك حرستا التي قرر دلا حينها استخدام صواريخ "جولان" فيها، وهي صواريخ محلية الصنع، رديئة التصنيع، تفتقر للدقة في التصويب، مما حقق هدفاً مثالياً من استخدامها في تدمير وتهجير السكان من الضاحية الكبرى جنوب دمشق على مدخل أوتوستراد دمشق - حمص.
شهادة من الداخل
تمكنت "اندبندنت عربية" من التواصل مع أحد الجنود الذين خدموا تحت إمرة دلا، واصفاً إياه بـ"الهمجي والوحشي" والمتسابق مع نفسه لإثبات طاعته وولائه للقيادة العليا وتحديداً لماهر الأسد، إذ يقول "كان دلا يوماً بعد يوم يزداد شراسة ودموية، كانت شخصيته تتغير بعد كل معركة، كان كمن يخلع عنه إنسانيته شيئاً فشيئاً، رغم ملامحه الطيبة والنظارة الطبية اللتين لا توحيان بما يختبئ خلفهما، فإن داخله كان ثمة بركان من الغضب، وللحقيقة كان محبوباً جداً من عناصره والقوات التي يشرف عليها، إذ عرف كيف يكون سخياً معهم، وكيف يكرمهم ويتعامل معهم بمحبة وهدوء، خلاف الوجه الذي كان يظهره لأعدائه".
وجهة نظر روسية مغايرة
مع التدخل الروسي في سوريا أواخر عام 2015، لم يمل الجانب الروسي إلى الفرقة الرابعة التي غرقت في التحالفات الإيرانية، مفضلاً عدم التعامل مع دلا والتوجه لرعاية اللواء سهيل الحسن وقواته وصنع قوة ضاربة من خلالهم تتمكن من حسم أي معركة، مما أدى بالضرورة لتراجع دور الفرقة الرابعة عموماً رغم استمرار عملياتها القتالية التي امتدت لاحقاً إلى الجنوب السوري.
اللواء سهيل الحسن كان يتبع تنظيمياً للمخابرات الجوية، ومع المد الروسي الذي منحته إياه روسيا، تمكن من تشكيل مجموعات قتالية بلغ تعدادها نحو 25 ألف مقاتل، أي ما يماثل قوام فرقتين قتاليتين في تنظيم جيش النظام السابق. ولاحقاً، تسليمه قيادة الفرقة 25 في حماة مع ذات الصلاحيات الواسعة، وهو ما وسع الفروق بين القوات السورية التي استشعر قادتها خطر التباين في المحاولات التي جرت لإقصاء الرابعة عن المشهد، وهو الذي كان يقابله دعم كبير ومتنامٍ من إيران للفرقة إياها وللضابط دلا تحديداً، بحسب مصادر ميدانية مطلعة.
هجوم واعتذار
مع بدء عمليات "ردع العدوان" وتحرير حلب، أُنيط بالضابطين الحسن ودلا مهمة قيادة عمليات الدفاع عن حماة وحمص قبل أن يتركا الجبهة مع قواتهما نحو جهة غير معلومة، إذ حاولت "اندبندنت عربية" تقفي أثر دلا الذي عاد للظهور قبل أيامٍ عبر بيان مكتوب يدعو فيه للنفير والقتال ضد الحكومة الجديدة، لكن أحداً لم يتمكن من تقديم جواب حول ما إذا كان الضابط لا يزال داخل البلد أم لحق برفاقه إلى الخارج.
البيان حمل توقيع "المجلس العسكري لتحرير سوريا - العميد غياث دلا"، الذي دعا فيه إلى "تحرير سوريا من النظام الجديد والمحتلين"، في الوقت الذي رجحت فيه مصادر على اطلاع أن يكون دلا قد تحالف مع بعض قيادات الجيش والمخابرات والميليشيات السابقين لاستحداث هذا البيان الذي جر الفلول لمواجهات مع قوات سوريا الجديدة، مما أسفر عن سقوط مئات الضحايا وجر الساحل السوري إلى مقتلة بسبب تهور دلا، بحسب وصف سكان الساحل. ليعود دلا ويطلب الصلح في اليوم التالي عبر بيان آخر، وفي الحالين لا يزال دلا ومن معه على رأس قائمة المطلوبين للعدالة الانتقالية.
وكان من بين أبرز التعليقات على بيان دلا والفوضى التي أثارها، تعليق رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد الذي اتهم فيه دلا بالمسؤولية عن كل مجزرة وقعت في الساحل السوري، قائلاً: "ماذا فعلتم بأهلنا؟ هل تاجرتم بدم أهلنا؟! ألم تتوقعوا بعد ما فعلتموه بعناصر الأمن أن تكون ردة الفعل عنيفة جداً؟ لماذا ورطتم هؤلاء المدنيين المساكين معكم واستغليتم حاجتهم للمال؟".