ملخص
أثر العقوبات الأميركية في النفط الروسي والإيراني محدود، وما نراه من تجمع لحاملات النفط قرب الصين أو في البحر المتوسط يعود لتباطؤ اقتصادي وانخفاض هامش أرباح المصافي، إضافة إلى الضبابية والتقلبات التي سببتها السياسات الأميركية والتي زادت من مخاوف معامل التكرير وشركات التجارة العالمية، ومن ثم فإن رغبة بعض المستثمرين والتجار في ارتفاع أسعار النفط بسبب تشديد ترمب للعقوبات على كلا البلدين لن تتحقق.
منذ تبني "مجموعة السبع" والاتحاد الأوروبي العقوبات النفطية على روسيا والإعلام اليساري يبالغ في أثر العقوبات، ووسائل الإعلام هذه قالت لنا عشرات المرات إن هناك ناقلات نفط متوقفة بسبب العقوبات، ثم نرى في الأيام التالية أن هذه الناقلات أفرغت حمولتها وعادت لتجلب المزيد، وقالوا لنا إن السقف السعري الذي أقرته الدول الغربية على النفط الروسي فعّال، على رغم أن النفط الروسي يباع بأسعار أكثر من ذلك بكثير، فولد السقف السعري ميتاً ولم يصدروا له شهادة وفاة حتى الآن.
كانت هناك عشرات من حاملات النفط الروسي والإيراني المتوقفة قرب الموانئ الصينية، وعزت وسائل الإعلام ذلك إلى العقوبات الأميركية التي فرضها بايدن قبل مغادرته البيت الأبيض، والعقوبات التي فرضها ترمب لاحقاً، وتأخر الناقلات في تفريغ حمولتها، أحياناً لأسابيع عدة، يوحي فعلاً بأن السبب قد يكون العقوبات، ولكن هناك حاملات نفط متوقفة خلال الفترة نفسها وليس عليها أية عقوبات، فكيف نفسر ذلك؟
الحقيقة أن هناك أسباباً عدة، أولها انخفاض الطلب على النفط في الصين، فالسبب الرئيس لوقوف السفن وتراكمها قرب الموانئ الصينية هو ضعف النمو الاقتصادي في الصين وانخفاض نمو الطلب على النفط مقارنة بالتوقعات المتفائلة، ولا شك في أن الحروب التجارية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد الصين أسهمت في ضعف نمو الاقتصاد الصيني، ولكن هناك عوامل داخلية أيضاً، وأسهم هذا في ضعف أرباح شركات التكرير فخفضت طلبها على النفط الخام، حتى بهدف تصدير المشتقات النفطية.
وثانيها قرار الشركة المالكة لميناء "شاندوغ" عدم قبول الناقلات المشمولة في لائحة العقوبات، فقد قررت المجموعة المالكة لميناء "شاندونغ" منع رسو الناقلات التي حظرتها الولايات المتحدة، وهذا أثّر في واردات النفط الصينية وزاد من تجمع السفن قرب الميناء، وهذا الميناء يستقبل ناقلات النفط العملاقة والتي تورد النفط لعدد من المصافي، بما في ذلك مصافي الشركات الخاصة المستقلة، وسبب المنع هو أن هذه الشركة لها أعمال دولية وتتعامل مع الأسواق والبنوك الغربية، وخافت أن تجري محاكمتها في الغرب، والأمر نفسه ينطبق على شركات النفط الصينية الكبرى التي منعتها الحكومة الصينية من الشراء المباشر للنفط المحظور من إيران وروسيا، والقرار المفاجئ الذي اتخذه بايدن في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض بحظر حاملات نفط روسية حددها بالاسم، أخاف شركة الموانئ فقررت عدم استقبالها، والمشكلة أن هذه الناقلات ضخمة وتحمل أكثر من مليوني برميل ولا يمكنها إلا الرسوّ في الموانئ العميقة مثل "ميناء شاندونغ"، وتحويلها إلى موانئ أصغر ليس لها أي تعامل مع الدول الغربية يعني نقل حمولتها إلى سفن أصغر وهذا يتطلب وقتاً، ولكن هذا ما حصل بالفعل، والآن تلجأ كل من روسيا وإيران إلى استخدام حاملات أصغر كي تفرغ حمولتها في موانئ صغيرة وغير معروفة، وإذا قررتا إرسال النفط في الناقلات الكبيرة فإنها ترسل إلى عرض البحر قرب الصين أو ماليزيا أو في بحر العرب، حيث يجري نقل النفط إلى سفن أصغر لتعطى شهادة منشأ مختلفة، ليظهر النفط أنه مستورد من دول أخرى غير روسيا وإيران، وقد قامت كل من الصين وإيران ببناء موانئ صغيرة عدة بهدف تلافي العقوبات، حيث يجري إرسال النفط الذي لا يمكن نقله في الموانئ الكبيرة إلى هذه الموانئ الصغيرة، وهكذا يجري تصدير واستيراد كميات ضخمة من النفط خلال الفترات الأخيرة.
أما ثالثها فهو لجوء الشركات الصينية لاستخدام المخزون بدلاً من الواردات، فنظراً إلى انخفاض هامش أرباح شركات المصافي لجأت مصانع التكرير إلى السحب من المخزون، وهي كميات من النفط اشترتها في الماضي بأسعار منخفضة، وتشير بيانات الصين إلى انخفاض ضخم في المخزون مع انخفاض الطلب على النفط مع السحب من المخزون، مما خفض واردات النفط بصورة كبيرة نتج منها تجمع حاملات النفط قرب الموانئ الصينية، وفي هذه الحال فالأمر لا يتعلق بالعقوبات ولكن بالوضع الاقتصادي في الصين.
ورابعها الضبابية والذبذبة التي خلفتها العقوبات والحروب التجارية، فنظراً إلى التقلبات التي سببتها قرارات بايدن قبل مغارته البيت الأبيض بفرض حظر على النفط والناقلات الروسية، ثم حروب ترمب التجارية وتقلب قراراته، لجأت المصافي وشركات التجارة الدولية إلى التعامل مع القضية "على المضمون"، إذ قامت بشراء شحنات من بلاد مختلفة تخوفاً من انخفاض الإمدادات بسبب هبوط الصادرات الروسية والإيرانية، ولكن الصادرات الروسية والإيرانية زادت بدلاً من أن تنخفض، فزاد عدد السفن قرب الموانئ الصينية وفي البحر المتوسط قرب قناة السويس، ولذلك فإن تراكم السفن لا علاقة له بالخوف من شراء الشحنات من سفن محظورة أميركياً ولكن بسبب الفائض، والملاحظ أن معظمه من النفط الخفيف والمنتجات الخفيفة، بينما يجري تفريغ حاملات النفط المحملة بالنفط المتوسط أو المنتجات الأثقل بسرعة على رغم وجود الحظر عليها، وكل هذا يؤكد أن الأمر يتعلق بالطلب على النفط والوضع الاقتصادي وليس بالعقوبات الأميركية.
وخامسها عمليات الصيانة في روسيا، فكل ما سبق تزامن مع عمليات صيانة في بعض الحقول والمنشآت الروسية، فانخفضت صادرات روسيا مما أجبر الهند والصين على زيادة مشترياتها من دول أخرى وبخاصة دول الخليج، وهنا قام الإعلام اليساري الذي يجنح إلى المبالغة في أثر العقوبات ليقول إن الصين والهند تحولتا عن شراء النفط الروسي بسبب العقوبات، والحقيقة أن الصين والهند استمرتا في استيراد النفط من روسيا بكميات كبيرة، وكل ما حصل هو انخفاض الواردات بسبب أعمال الصيانة في روسيا، وهذا التغير يعود لأسباب تقنية لا علاقة لها بالعقوبات الأميركية، بدليل أن واردات الصين والهند من روسيا تزيد حالياً.
وخلاصة الأمر أن أثر العقوبات الأميركية في النفط الروسي والإيراني محدود، وما نراه من تجمع لحاملات النفط قرب الصين أو في البحر المتوسط يعود لتباطؤ اقتصادي وانخفاض هامش أرباح المصافي، إضافة إلى الضبابية والتقلبات التي سببتها السياسات الأميركية والتي زادت مخاوف معامل التكرير وشركات التجارة العالمية، ومن ثم فإن رغبة بعض المستثمرين والتجار في ارتفاع أسعار النفط بسبب تشديد ترمب للعقوبات على كلا البلدين لن تتحقق.