ملخص
بعد أكثر من عشر سنوات على صدورها بالعربية، وصلت رواية "سفر الاختفاء" (دار الجمل 2014) للكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم، بترجمتها الإنجليزية، إلى القائمة الطويلة من جائزة مان بوكر الدولية، التي تعد من أهم الجوائز التي تمنح في العالم الأنغلوفوني. أما الترجمة إلى الإنجليزية للرواية، فأنجزها الشاعر والروائي العراقي المقيم في نيويورك سنان أنطون، وهو معروف عنه إجادته الكتابة بالإنجليزية والترجمة عنها وإليها. وإدراج الرواية الفلسطينية هذه، في اللائحة الطويلة يعدّ حدثاً، خصوصاً في هذه المرحلة، فهذه الجائزة الدولية ضمت أسماء كبيرة بعضها من الفائزين بجائزة نوبل.
لعل دخول "سفر الاختفاء" اللائحة الطويلة لجائزة مان بوكر الدولية، أتاح لنا اكتشاف هذه الرواية التي لم تنل ما تستحق من الترحاب الإعلامي والنقدي على ما بدا، حين صدورها عام 2014 ولم تلتفت إليها واحدة من الجوائز العربية. لكن بروزها الآن يحل في الوقت الأشد ملاءمة، وأقصد الظروف القاسية واللاإنسانية التي تحياها غزة وأهلها والفلسطينيون عامة، من قتل وتهجير وتجويع وإبادة منظمة. فهذه الرواية قد تكون خير رد على مشروع تهجير الغزاويين واقتلاعهم من أراضيهم وتشريدهم في بقاع الأرض، بحسب ما يخطط له ترامب ونتانياهو. ففي هذه الرواية البديعة، المتينة والفريدة، تتخيل الروائية ابتسام عازم، ابنة يافا، المقيمة في نيويورك، اختفاء كل الفلسطينيين من كل فلسطين، فلسطين الاحتلال وفلسطين العام 48 وفلسطين السلطة.
واختفاؤهم يعني خلو كل المدن والقرى والمناطق من أهل الأرض وبقاء الإسرائيليين، من دون حدوث معارك أو فتح جبهات وإراقة دماء. لكن الإسرائيليين المشككين دوماً، ظنوا أن في الأمر "مؤامرة" أو حيلة يتدبرها الفلسطينيون للانقضاض عليهم للفور وإبادتهم. لكنّ ما حدث، فعلاً حدث، في فضاء التخييل الروائي والسرد الديستوبي والسخرية السوداء والعبث... ولعل قوة الرواية تجعل القارئ يظن أن ما حدث ويحدث، يمكن أن يكون واقعياً، على رغم وعيه أبعاد اللعبة، فيسمح لنفسه أن يتواطأ فيها (اللعبة) ليكتشف كم أن الحقيقة المتوهمة يمكن أن تكون مرعبة في أحيان، وهو الرعب نفسه الذي يعيشه الآن أهل غزة وفلسطين والعرب وبعض الشعوب المتضامنة معهم.
غير أن الرواية التي اختارت لها ابتسام عازم بذكاء وحصافة، عنواناً توراتياً يندرج في سلسلة "أسفار" التوراة (سفر التكوين، الخروج...) لا تسرد فقط سفر الاختفاء الفلسطيني المتخيل، بل تفتح أبواب الذاكرة لتستعيد فصول القضية الفلسطينية المتعاقبة منذ نكبة 48 وهزيمة 67، عبر ذاكرة الجدة (تاتا هدى)، والحروب الجديدة والمجازر والمآسي التي حصلت لاحقاً، وبدا الحفيد علاء، شاهداً عليها كما أمه وبعض أقاربه والآخرون.
إختفاء الجدة
ولئن بدأت الرواية مع اختفاء الجدة "تاتا" المقيمة في يافا وهرولة ابنتها، أم علاء، بحثاً عنها في الأحياء والحارات، ومضيّ الابن علاء، في التفتيش عنها أيضاً، فهذا الاختفاء، على خلاف اختفاء الفلسطينيين الذي بدا رهيباً، سرعان ما يدرك نهايته، عندما يجد علاء جدته جالسة على مقعد قبالة بحر يافا، ميتة وعقد اللؤلؤ الذي كانت تخبئه في علبتها، بين يديها. يعلم علاء أن جدته "تاتا" كانت استحمت للتو، مدركة أنها ذاهبة إلى الموت في المكان الذي لم يفارقها ولم تفارقه يوماً. فهي رفضت عندما وقعت نكبة 48 (تسميها "هيديك السنة") أن تغادر مثلما غادر زوجها وأمها وأخوها وأختها والآخرون، أصرت أن تبقى ولو وحيدة، مما اضطر والدها العجوز إلى البقاء معها. كانت تدرك أن لا مدينة لها سوى يافا، لا بيروت ولا عمان وسواهما من المدن التي هرب الفلسطينيون إليها هرباً من المجازر. عاشت مع أبيها حتى توفي، لكن بيتها ظل مفتوحاً أمام الزوار. لكنها عاشت حالاً من الغربة في مدينتها، لا أحد يعرفها، بعدما راحت تتبدل أسماء الشوارع والساحات، وبعدما طغى الغرباء عليها فلم يعد أحد يتعرف إليها، وفي يقينها أن المدينة تموت إذا لم تتعرف إلى أهلها.
أما اختفاء الفلسطينيين فظهرت ملامحه الأولى في مزرعة القرنفل والورد التي يملكها الإسرائيلي شمعون، عندما تغيبت صباح ذاك اليوم، العاملات الفلسطينيات اللواتي يقطفن الزرع، ويأتين من مخيم بلاطة، عابرات الحواجز "بين فلسطين وفلسطين". وعدم مجيئهن إلى القطاف شغل بال شمعون الذي لا يستعين إلا بهن ويفضلهن على الآسيويات، وقد عيّن مريم مسؤولة عنهن، هي التي كان سجن الإسرائيليون زوجها، وخرج معتوهاً.
أما الملامح التالية للاختفاء، فظهرت في محطة ميدان الساعة، عندما يكتشف الإسرائيلي دافيد أن الباص الذي يقوده صديقه يوسف الفلسطيني تأخر، وكان دافيد ينوي فتح مطعم مع يوسف. الباصات كلها تأخرت صبيحة ذاك اليوم، وتمت محاولة استبدال سائقين إسرائيليين بالسائقين الفلسطينيين، فسرعان ما انتشرت إشاعة تقول: "العرب أعلنوا الحرب علينا وأضربوا". لكنّ الاختفاء الفادح حصل في السجون، واكتشف سجانو المعتقل 48 مثلاً أن الأسرى الفلسطينيين الذين يحملون أرقاماً لا أسماء، اختفوا وباتت الزنازين فارغة، فأطلقت صفارات الإنذار. كان لا بد من أن تعلن الدولة حالة طوارئ قصوى، كما في حالة الحرب، واستدعي الجنود الاحتياطيون، وعاد إلى الذاكرة الإسرائيلية يوم كيبور، أو حرب الأيام الستة التي أرعبتهم عشية وقوعها.
بيوت خالية
تستخدم الكاتبة هنا أسماء تاريخية توراتية كاشفة لؤم الإسرائيليين الذين يسمون الضفة بـ "يهودا" وغزة بـ"السامرة". أضحت بيوت الفلسطينيين خالية وبعضها لا تزال التلفزيونات تبث فيها، هواتفهم لا ترد، اختفى العمال والمتسولون والسجناء والمرضى وأصحاب المطاعم الشعبية التي تقدم الحمص والفلافل، ونادلو المقاهي والطباخون... ولئن سُرّ، كما من المفترض، بعضهم بهذا الاختفاء السحري، معتبرين أنهم تخلصوا من "المصيبة"، وأن الشوارع خلت من الازدحام، والأمان توافر جداً بعد انتشار الجيش، فبعضهم وقع في حال من الإرباك والخوف، ظناً أنهم بصدد مواجهة جيش من "المخربين" سيخرج إليهم من حيث لا يدرون، وأن آلاف "العرب" سينفجرون بهم. وتحدث بعضهم عن خيبتهم من "عرب 48" الذين ائتمنتهم إسرائيل على العيش معها، فخانوها. وشاع كلام ضد اليساريين الإسرائيليين الموصوفين بـ "الملونين": "ليذهبوا معهم ما داموا يحبونهم". وبرزت خيبة على ما بدا من دروز إسرائيل، كان شرارتها خبر اختفاء الجندي الدرزي سمير الذي وجدوا سلاحه مرمياً إلى جانب المرحاض، في نقطة تفتيش في قلنديا، وكتبت صحيفة "هآرتس" مقالاً عن قضيته بعنوان "سقط القناع"، فلم يكن متوقعاً أن يخون الدروز إسرائيل.
أما أطرف ما يرد هنا هو وقوع عيون إسرائيليين على بيوت فلسطينية تعجبهم، وسعيهم إلى مصادرتها. وقد دعت الحكومة الإسرائيليين إلى البدء في تسجيل أسمائهم بغية إجراء إحصاء سكاني جديد، بعد "التدخل الإلهي" الذي أخفى أربعة ملايين فلسطيني. وكان لا بد من أن يتساءل بعضهم عن مصير فلسطينيي المهاجر والمنافي، وأحوالهم. أما الحدث المنتظر فهو الاحتفال الرسمي والشعبي الذي ستقيمه الدولة في جادة روتشيلد عند الساعة الثالثة صباحاً، بعد أن يتم التأكد النهائي من أن أصحاب الأرض لن يعودوا. في جادة روتشيلد هذه، وتحديداً في العمارة الرقم 16، في بيت ديزنغوف، قرأ بن غوريون في الرابع عشر من شهر مايو (أيار) عام 1948 وثيقة الاستقلال.
يدهش فعلاً هذا التخييل القائم على حافة الواقع والتاريخ، الذي اعتمدته الروائية ابتسام عازم ببراعة، حتى غدا وكأنه ضرب من التأليف المبني على وقائع تفضح ما يتخيله الإسرائيليون عبر إمعانهم في ارتكاب المجازر الجديدة، وتهجير أهل غزة والفلسطينيين ودفعهم إلى مغادرة أراضيهم بغية أن يكتبوا سفراً جديداً عنوانه "سفر الاختفاء".
مداخل ومخارج
غير أن الرواية المتعددة المداخل والمخارج، هي في الوقت نفسه رواية علاء وجدّته "تاتا هدى"، وصديقه الإسرائيلي "اللدود" أريئيل، وعمادها راوٍ رئيس وعلاء نفسه، عندما يتولى السرد عبر مذكراته التي يكتبها في "الدفتر الأحمر"، والتي سيتولى صديقه أريئيل قراءته بعد اختفائه أيضاً، فيستمر علاء بأداء دور الراوي "المختفي". علاء في الأربعين من عمره، يعمل مصوراً تلفزيونياً حراً، يقيم في تل أبيب، ويدرس الإعلام في جامعتها. أريئيل صحافي يكتب في صحيفة أميركية، تعلم العربية بإصرار من والده الضابط الذي قتل في جنوب لبنان بعدما أسقط عناصر من "حزب الله" مروحيته. أما علاء فكان يكره العبرية، وكان يشعر، كلما تحدث بها أن الصوت الذي يخرج من حنجرته ليس له، ويقول: "يخرج الصوت ويتحدث العبرية نيابة عني، وأنا هناك في داخلي أنظر إليه، لا أدري ماذا أفعل به وماذا أفعل بي. لم أعد أطيق هذا الصوت". تلمح الروائية هنا إلى مسألة غاية في الخطورة، هي الاقتلاع اللغوي، والتحدث أو الكتابة بلغة العدو أو المحتل. فاللغة هي الكائن نفسه، وهو هنا الكائن الفلسطيني. وكم كان يؤلم علاء أن يدرس التاريخ الذي يريده الاحتلال، والذي اضطر أن يحفظه كي يتمكن من النجاح في امتحانات المدرسة والجامعة.
الصديقان "اللدودان" تعارفا واحداً على الآخر، في حفلة أقامتها المراسلة الصحافية الألمانية ناتالي، تخللها الشرب والحشيش المتفشي. هما يقطنان بناية واحدة، في جادة روتشيلد، وقد أعطى علاء مفتاح شقته لصديقه، كي يطل عليها في أيام غيابه. ولعل "الدفتر الأحمر" الذي يدون فيه علاء مذكراته، سيكون الباب الذي يطل منه أريئيل على سيرة صديقه الشخصية والعائلية، عندما يقرأه في اليوم الأول بعد "اختفاء" صديقه، وفي شقته التي دخلها أو ربما "احتلها" في غيابه.
حكايات التهجير
في المذكرات يخاطب علاء جدته "تاتا" ويتوجه إليها ويسرد الحكايات التي روتها له، عن ماضيها وعن النكبة والتهجير الجماعي، وعن الخوف الذي يسكنها على رغم شجاعتها. الجدة هي كل حياة علاء، العائلة كلها تجتمع فيها، وكذلك فلسطين، وخصوصاً يافا التي تحبها ورفضت مغادرتها. وتحكي له كيف كانت تتألم عندما ترى أن أسماء الشوارع والساحات تتبدل على اللافتات. لكنها لم تكن تقتنع أن يافا تبدلت، يافا في نظرها تبقى يافا، "موجودة في كل مكان من حولنا، علينا فقط أن ننظر لنرى". من خلال حكايات جدته يتعرف علاء إلى أجواء العائلة والبيت والعلاقات التي سادت بين الأهل والتفاصيل الصغيرة التي تمنح الحياة الفلسطينية فرادتها. ومن طرائف جدته، إقدامها على شراء قماش كفنها والحاجيات الأخرى، وخبأت مالاً في صرة، يغطي مصاريف الجنازة، لئلا تثقل على أحد. وعندما علمت أم علاء بالأمر انهمرت دموعها حزناً.
لكن "تاتا" ما لبثت أن تخلت عن فكرتها، وتبرعت بالمال، بعدما أقنعتها جارتها أن هذا من الحرام. يخاطب علاء جدته في الدفتر: "أشعر بك في كل مكان، في هذا البلد". أما والد علاء فكان طبيباً جراحاً، منهمكاً في العمل، مما جعله شبه غائب عن العائلة. ولما تقدم به العمر، انتحر، وظل انتحاره سراً، ولم يشع، فالانتحار عيب. لكن علاء يجد لاحقاً في انتحار أبيه "عملاً تافهاً" وسط قصف غزة وتدميرها.
أما الصداقة بين علاء وأريئيل فهي معقدة بحسب ما تفترض العلاقة بين إسرائيلي وفلسطيني، فالصديق الإسرائيلي يظل يمثل صورة الجلاد في عيني الفلسطيني ووجدانه، مهما تآخت العلاقة وتأنسنت وتخطت تخوم السياسة والهوية، ومهما بدا الصديق الإسرائيلي علمانياً ويسارياً ويقول بحل الدولتين. عندما دخل أريئيل غرفة علاء بعد اختفائه، شعر أنه يدخل شقة علاء الفلسطيني، فراح يجوب الغرف ويفتش الجوارير والخزانات ويقلب الكتب، ودخل المطبخ الذي كان يأنس فيه لروائح المونة الفلسطينية. وكان يكره أكثر ما يكره اللوحة التي رفعها علاء في غرفته وتمثل شاباً فلسطينياً مستلقياً، تغطي رأسه حطة فلسطينية.
وكان علاء يجمع اللوحات المعدنية التي اقتلعت والتي تحمل أسماء الشوارع الفلسطينية. في شقة علاء نام أريئيل في تخت صديقه وشرب قهوته الفلسطينية، وتعرف إليه بعد اختفائه، عبر المذكرات. وكم نجحت الروائية ابتسام عازم في ختم روايتها البديعة في لقطة عميقة ومعبرة جداً، تختصر العلاقة بين صديقين، فلسطيني وإسرائيلي، وتتركها مفتوحة على رغم رمزيتها: خلال نوم أريئيل في شقة علاء ليلاً، يسمع أصواتاً خفيفة توقظه، فيهب من سريره، ولما يطمئن أن لا أحد هنا، يرجع إلى سريره، وقد قرر أن يغير قفل باب الشقة غداً. تغيير قفل شقة علاء، سيعني تغيير أقفال كل أبواب بيوت الفلسطينيين.