ملخص
يقدم مصطفى ناصف مسوغاته لإنصاف الأدب العربي في حقبة ما قبل ظهور الإسلام، من خلاله كتابه "قراءة ثانية لشعرنا القديم"، الذي ينطلق من مخالفة ضمنية لما سبق أن ذهب إليه طه حسين في كتابه الإشكالي "في الشعر الجاهلي"، ومنطلقاً في الوقت ذاته، من قول صاحب "الأيام" إن الأدب العربي القديم "لم يقرأ قراءة حسنة"، عبر الباحثين الذي تناولوه.
يعد مصطفى ناصف (1921 – 2008) من أبرز الداعين إلى تجديد مناهج النقد العربي عبر عملية جدلية تضع في حسبانها علاقة الذات العربية بكل تراثها الثقافي والفكري المتراكم، مع الآخر الغربي بكل إنتاجه الفكري والفلسفي، وقد بلور ناصف الذي كان أستاذاً في كلية الآداب في جامعة عين شمس حتى وفاته، منهجية نقدية، عبر مؤلفاته التي بلغت ثلاثة وعشرين كتاباً. حصل على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب عام 2007 في موضوع "الدراسات التي تناولت البلاغة العربية القديمة في موضوعاتها وأعلامها وكتبها"، وجائزة نقد الشعر من مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين في دولة الكويت عام 1994، وجائزة الدراسات الأدبية والنقد من مؤسسة سلطان بن علي العويس في دولة الإمارات العربية المتحدة عام 2003. وفي كتابه "قراءة ثانية لشعرنا القديم"، الذي صدر أخيراً في طبعة جديدة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، قراءة مختلفة عن تلك التي تبناها طه حسين وآخرون، منطلقين من التشكيك في أصالة الشعر الجاهلي، واعتباره شعراً منتحلاً لا يعبر عن واقع الحقبة الزمنية التي ينسب إليها، بقدر ما ينتمي إلى حقبة ما بعد ظهور الإسلام.
وكتاب ناصف صدرت في طبعات عدة، بعد صدور طبعته الأولى عام 1972 عن الجامعة الليبية، من أشهرها طبعة دار الأندلس في بيروت 1981، ويلاحظ أنه لم يتطرق في شكل مباشر إلى ما انتهى إليه طه حسين في كتابه الشهير، إذ دائما ما يشير إلى اهتمامه بتفنيد ما أقره باحثون محدثون، من أن الشعر الجاهلي لم يعكس سوى بداوة ساذجة اتسم بها زمنه. ومن ثم جاء هذا الكتاب المهم كما يقول صاحبه، لإثبات خطأ النظرية التي تقول إن الشعر الجاهلي "كان شعراً ساذجاً لا غور له".
الشك المعاكس
يتألف الكتاب من مقدمة وثمانية فصول، وشكَّل متنه 171 صفحة من القطع فوق المتوسط، وفيه ينطلق ناصف من قناعة مفادها أن هناك الكثيرمن الحواجز القائمة بيننا وبين تراثنا القديم؛ "هي حواجز نفسية وعقلية معاً. وفي وسع المرء أن يذهب ساخراً إلى أن دراسة الأدب العربي تؤول من الناحية العلمية إلى فن إقامة الحواجز بيننا وبينه، وإذا استطاع المرء أن يفطن إلى وجود هذه الحواجز في نفسه فقد بدأ يشك في قدرتنا على القراءة، ذلك أن القراءة هي فن كسر الحواجز التي تفصل بيننا وبين قصيدة من القصائد". ويستهد ناصف في هذا الصدد بقول طه حسين في مقدمة كتاب "فجر الإسلام": "هناك ناس يعيبون الأدب العربي دون أن يفصحوا عما يريدون، وهم لم يقرأوا الأدب العربي قراءة حسنة".
ويقول ناصف في مقدمة كتابه: "إنها فصول عن الأدب العربي قبل الإسلام. وقد حاولتُ أن أرى هؤلاء القدماء المعاصرين، وانتهت بي القراءة إلى الشك في قضايا كثيرة. وقد صُور العقل العربي في العصر الجاهلي تصويراً منفراً، فقيل إنه عقل مادي قاس رتيب لا يتجاوز المحسوس، ولا يعلو على العلاقات القريبة، ولا يستطيع أن يحيط بالأشياء من حيث هي كل، همُه محصور في أن يتعلق بجزء من الأجزاء ينكب عليه دون ملل، ثقافته محدودة، وتطلعه الفلسفي سطحي يسير".
ويضيف أنه طرح كل ذلك وراء ظهره، محاولاً كسر تلك الحواجز، "أو لنقل أردتُ أن أحب الشعر الذي أقبل عليه. والمحبة شرط لازم للمعرفة. ولقد يكون من الخير أن نبدأ عصراً من التشكك في معظم ما نعرفه عن الأدب العربي، وهذه مهمة صعبة، وقد تبدو خيالية، ومع ذاك فأنا أصدقك الشعور – يخاطب القارئ الافتراضي - بأن الحواجز دون معرفة الأدب العربي تملأ عقولنا، وتفسد علينا ضمائرنا وقلوبنا. ويكرر: "كل ما أعرفه على يقين هو أن الأدب العربي – فيما يقول طه حسين – لم يقرأ قراءة حسنة. ولا أحب أن أعلو عليك ولا على نفسي. حسبي أن أشعر أن حياة الأدب العربي يحيط بها الظلام الذي ينشأ من حواجز النفس والعقل، ومن الخير – والشك الذي تدعمه الرغبة في ثقافة أفضل. وموضوع الثقافة الأفضل موضوع حساس إن صحَّ هذا التعبير".
الصورة الناضجة
ويرى ناصف في هذا الصدد أن كثيراً مما نراه رديئاً قد تفصح الأيام عن أهميته أو مغزاه؛ "إذا أحسنّا تلمس السبيل إليه". ومن ثم فإنه يصل في الأخير إلى القناعة بأن الأدب الجاهلي؛ "يعتبر أعلى قمم الشعر العربي على الإطلاق، وهو الصورة الناضجة المبكرة للأدب العربي الذي استطاع أن يقاوم الآثار الوافدة عليه"، ملاحظاً أن عمود الشعر عند النقد العربي القديم، كان يشبه عمود الدين، والحياد عنه بدعة أو ضلال، ومن ثم اعتبر التعبير عن العاطفة الشخصية خطراً على نقاء الأدب العربي ونظامه أو تقاليده. وهو يرد على ذلك وفق الدراسة التي تضمنها كتابه بأن الأدب الجاهلي؛ "هو أكثر الآداب تأثيراً في مجرى الأدب العربي.
وتوافق مجدداً مع القول بأن النهضة الثقافية في العصر الجاهلي لم تدرس حتى الآن دراسة كافية، معتبراً أن القول بأن حياة الجاهلية اتسمت بشظف العيش أو الفاقة، مبالغ فيه، فهناك في العصر الجاهلي مدن معروفة اشتغلت بالتجارة والرحلات المنظمة في الصيف والشتاء. وراى أن هذا الازدهار الاقتصادي ترتّب عليه وصحِبه ازدهارٌ أدبي، "فأصبحت الجزيرة أو معظمها أشبه بأوتار آلة متفاعلة تبحث عما بينها من صلات بالرغم من تناحر القبائل، لتكون نغماً متقارباً منسجماً" ص 43. ومن الجلي أننا إذا اعتمدنا على القرآن الكريم – يقول ناصف - وجدنا صورة العصر الجاهلي مختلفة عما يتصوره الباحثون، فالقرآن الكريم يعطي للعربي من مظاهر القدرة القلقة أكثر مما علق بأذهاننا حتى الآن".
دراسة متأنية
حاول ناصف في دراسة متأنية – بحسب وصفه - لنماذج من الشعر القديم أن يثبت صحة ما ذهب إليه، من التشكيك في مزاعم الباحثين بشأن أحوال العرب ما قبل الإسلام وافتقارها إلى النضج على غير صعيد، وخصوصاً الصعيد الأدبي. هو لا يوافق على أن يكون الشعر القديم انعكاساً مباشراً لفكرة البداوة؛ "يقولون مثلاً إن بكاء الأطلال معناه ببساطة أن العرب قومٌ رُحَل تعتمد حياتهم على الانتقال، وفي كل مكان يتركون وراءهم ذكريات خاصة". ويضيف" "أما شعر الحروب فواضح – عندهم – دلالته على الدمار الذي يهب لأدنى ملابسة في البادية. والهجاء نوع من الشعر يتعصب فيه القائل لرأيه وموقفه، ويهدد الآخرين بالويل دون أن يكبح غضبه أو يضبط عاطفته.
أما الرثاء فهو بكاء يسير جداً؛ لأن العرب في العصر الجاهلي لم يتعمقوا – كما زعموا – فكرة المصير ومأساة الإنسان، بما أنهم كانوا بدواً سذجاً، لم يترقوا إلا بعد اختلاطهم بالأعاجم". ولاحظ ناصف أن الشعر الجاهلي لم يكن ضرباً من الشعور الفردي الذي يعول في شرحه على بعض الظروف الخاصة بشاعر من الشعراء، وإنما نحن بإزاء ضرب من الطقوس أو الشعائر التي يؤديها المجتمع أو تصدر عن عقل جمعي". ورأى في هذا الصدد أن فن الأطلال، كغيره من فنون الشعر العربي في العصر الجاهلي، ينبع من إلزام اجتماعي؛ فالشاعر من حيث هو فنان يوشك أن يكون ملتزماً، ويأتيه هذا الالتزام من ارتباط غامض بحاجات المجتمع العليا.