ملخص
تأسست "ذا أتلانتيك" قبل 168 عاماً، ومع التحولات الإعلامية أوشكت المجلة على الإفلاس في السنوات الماضية، قبل أن تمر بعملية تحول محورية نقلتها من تغطية الأخبار اليومية إلى مناقشة قضايا أقل بعمق أكبر مما ساعدها على جذب القراء من جميع أنحاء الولايات المتحدة وأطيافها السياسية.
قبل أربعة أعوام كانت مجلة "ذا أتلانتيك" الأميركية تصارع من أجل البقاء، فإما أن تسد عجزها البالغ 20 مليون دولار وتواكب البيئة الإعلامية وعادات القراء المتغيرة، أو تنضم إلى كثير من المجلات في سلة التاريخ المهملة. وعندما كانت توشك على الإفلاس عام 2021 انضم إليها نيك تومبسون كرئيس تنفيذي فاتخذ قرارات حاسمة لإنقاذها من تدني القراءات وخوارزميات مواقع التواصل المؤذية للصحف والمجلات، وكان من أبرزها تسريح 17 في المئة من الموظفين بعد أشهر من تعيينه.
وركزت إدارة المجلة الجديدة وفريق تحريرها بقيادة جيفري غولدبيرغ على تبني أيديولوجيا لا حيد عنها وهي بكل بساطة "أن نصنع شيئاً يستحق الشراء" وتطلب ذلك تطوير النهج التحريري، فانتقلت المجلة العريقة التي تأسست قبل 168 عاماً من تغطية الأخبار اليومية إلى مناقشة قضايا أقل بعمق أكبر لجذب القراء من جميع أنحاء الولايات المتحدة وأطيافها السياسية.
وتحولت الاشتراكات من قصة فشل إلى نجاح للمجلة، فبعد دراسة سعر الاشتراك الملائم قررت "ذا أتلانتيك" رفعه بما يزيد على 50 في المئة، وعلى رغم أن ذلك أعاق قدرة الناس على قراءة المقالات من دون اشتراك، فإن المجلة استطاعت بفضل تغيير نهجها التحريري أن تجذب اهتمام القراء، فأصبحت تشكل الاشتراكات ثلثي الإيرادات بعدما كانت تمثل أقل من نصف الإيرادات عام 2021. كما نما الدخل بنسبة 10 في المئة خلال عام 2023 ليصل إلى نحو 100 مليون دولار ولديها الآن ما يقارب مليون مشترك إجمالي يتوزعون بالتساوي بين الاشتراكات الرقمية والطباعة.
قصص فارقة في العقد الأخير
في ثنايا قصة التحول عشرات القصص الصحافية الفارقة التي وضعت "ذا أتلانتيك" في مركز الضوء، من بينها "عقيدة أوباما" التي نشرت في أبريل (نيسان) عام 2016 وفيها فاجأ الرئيس السابق العالم بقوله إنه فخور بعدم تطبيق "الخط الأحمر" لردع الرئيس السوري السابق بشار الأسد عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه وألقى باللوم على "المتطفلين" الأوروبيين بالنسبة إلى الفوضى التي حدثت في ليبيا وقال إن أوكرانيا ستظل دائماً عرضة للهيمنة الروسية والتدخل فيها ليس مصلحة أميركية أساسية.
وخلال المقابلة التي تعتبر الأطول في تاريخ "ذا أتلانتيك" منذ أكثر من عقد أدلى أوباما بتصريحات اعتبرتها المجلة "وحشية" بحق الشرق الأوسط، إذ قال إن المنطقة غير قابلة للإصلاح وإن السعودية بحاجة إلى "تقاسم" المنطقة مع إيران. كما اعتبر أوباما موقف "الخط الأحمر" من أفضل محطات رئاسته وأصعب قرار اتخذه، في حين يرى مراقبو السياسة الخارجية ذلك من بين أسوأ لحظات الرئيس الديمقراطي لإخلافه وعده للشعب السوري.
وفي مارس (آذار) عام 2022 خرجت "ذا أتلانتيك" بمقابلة مطولة وحصرية مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أجاب خلالها عن 72 سؤالاً غطت رؤيته للبلاد والهوية السعودية وأفكاره حول الإسلام المعتدل وأهمية محاربة الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل الإخوان المسلمين، إضافة إلى العلاقات السعودية – الأميركية التي كانت عند أدنى مستوياتها في عهد الرئيس السابق جو بايدن.
والإثنين الماضي فجرت المجلة الجدل بعدما كتب رئيس تحريرها غولدبيرغ عن قصة إضافته في مجموعة مراسلة سرية تضم نحو 15 مسؤولاً أميركياً في مقدمتهم نائب الرئيس للتشاور حول تنفيذ عملية عسكرية ضد الحوثيين. وبعدما ادعت إدارة الرئيس دونالد ترمب بأن مسؤوليها لم يشاركوا أي معلومات سرية، قرر غولدبيرغ نشر الرسائل المتعلقة بالعملية العسكرية في مقالة ثانية.
ترمب: "مجلة تحتضر"
وجدد ترمب هجومه على غولدبيرغ ووصفه بـ"الدنيء" واعتبر مجلته "فاشلة" بعد السبق الأخير الذي أدخل الإدارة الجمهورية في استنفار إعلامي غير مسبوق، وعام 2020 قال ترمب إن "ذا أتلانتيك" تحتضر، رداً على تحقيق غولدبيرغ الذي اتهمه باستخفافه بالجنود الأميركيين القتلى وأنه وصفهم بـ"الفاشلين" و"الحمقى"، وبعد ذلك التحقيق انضم نحو 20 ألف مشترك إلى المجلة.
وبالعودة لفضيحة "سيغنال"، فعلى رغم أنها عززت وهج المجلة فإن سهمها خسر نحو 30 في المئة من قيمته بعد التسريبات مخالفاً التوقعات، ويعكس تراجع سعر السهم من ستة دولارات إلى 4.5 دولار مخاوف المستثمرين من أي تداعيات قانونية محتملة ومن فقدان ثقة القراء بالمجلة.
التوجه الفكري
وكانت "ذا أتلانتيك" تُعرف باسم "ذا أتلانتيك مونثلي" وأصدر مؤسسوها العدد الأول في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1857 بهدف مناقشة قضايا مثل إلغاء العبودية، ووقع بيان المهمة في العدد الأول عدد من الشخصيات الأدبية الشهيرة من بينهم رالف والدو إمرسون وهيرمان ملفيل. وواصلت مجلة "ذا أتلانتيك" هذا التقليد والتزمت مساراً فكرياً يجعلها غير محبوبة على الإطلاق لدى المحافظين أو اليمين.
وأُطلقت خدمة الدفع مقابل المحتوى في الخامس من سبتمبر (أيلول) عام 2019 لمواكبة توجه شركات الإعلام نحو تحقيق مزيد من الإيرادات مباشرة من قرائها بدلاً من الاعتماد على الإعلانات، لا سيما مع تراجع موثوقية الإعلانات الرقمية في ظل صعود "فيسبوك" و"غوغل". وقال غولدبيرغ آنذاك "نسعى باستمرار إلى تقديم محتوى يفوق توقعاتنا. نتميز بأن لا أحد يأتي إلينا باحثاً عن أخبار الرياضة أو حركة المرور أو الطقس. لا يتوقع قراؤنا سوى قصص مميزة حول مواضيع مهمة".
لكن توجه المجلة وضعها في صدام دائم مع ترمب، فكثيراً ما نشرت تحقيقات ومقالات تنتقده، بل كانت واضحة في معارضتها للرئيس الجمهوري عام 2016 عندما أعلنت تأييدها للمرشحة الديمقراطية آنذاك هيلاري كلينتون، وهو التأييد الرئاسي الثالث في تاريخ المجلة الطويل. ووصفت "ذا أتلانتيك" ترمب بأنه "أكثر المرشحين افتقاراً إلى الكفاءة في تاريخ الرئاسة الأميركية الممتد على مدى 227 عاماً".
إلى آخر قطرة
وبدت المجلة راغبة في الاستفادة من تسريبات "سيغنال" قدر الإمكان وخصصت ما لا يقل عن سبع مقالات مطولة لانتقاد المسؤولين المتورطين ومناقشة تداعيات استخدام تطبيق المحادثة لمناقشة معلومات حساسة، مما اعتبرته إدارة ترمب استهدافاً ممنهجاً لها بغرض رفع عدد القراءات.
وليست هذه المرة الأولى التي يكون فيها ترمب هدفاً لـ"ذا أتلانتيك"، فقبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024 نشرت تحقيقاً مطولاً زعمت فيه أن ترمب أثنى على جنرالات أدولف هتلر لولائهم المطلق وتمنى لو أن جنرالاته يتسمون بهذه الصفة.
وكتبت المجلة أن ترمب أعرب مراراً عن ازدرائه للجنود وقلّل من أهمية الخدمة العسكرية، واستشهدت بمقارنة مغامراته الجنسية وتحدياته السياسية بالخدمة العسكرية عندما قال عام 1997 إن تجنب الأمراض المنقولة جنسياً كان بمثابة "فيتنام شخصية لي أشعر وكأنني جندي عظيم وشجاع للغاية".