ملخص
وُلد هوبر في الولايات المتحدة ومات فيها، لكنه أمضى سنوات عدة من حياته في أوروبا، وفي فرنسا خصوصاً. ومن الواضح أن تكوينه الأميركي (النيويوركي بخاصة)، سيبدو لديه متعارضاً مع ثقافة اكتسبها في أوروبا، وكانت هي ما أضفى على أفكاره وفنه ذلك البعد التساؤلي الوجودي.
لا تخفى دلالة وجود الفندق أو المقهى أو المطعم في الفن التشكيلي. فهذا النوع من الأمكنة يتميز بكونه معبراً، لا مستقراً لأي كان أو لأي زبون. أنت لا تقيم هنا حتى ولو أتيت في ساعة معينة من كل يوم. والفندق ليس دارك حتى ولو أقمت في غرفة فيه لفترة غير محدودة من الزمن. طبعاً نعرف أن كتاباً مبدعين مثل جان جينيه وألبير قصيري، خرقوا القاعدة، إذ أقام جينيه في فندق عادي معظم سني حياته وحتى رحيله، بينما الكاتب بالفرنسية من أصل مصري ألبير قصيري كان حين رحل، لا يزال يقيم في غرفة في الفندق نفسه، منذ وصل فرنسا أواسط سنوات الـ40. غير أن من الممكن القول إن خرق هؤلاء قاعدة أن الفندق مكان موقت، إنما يعد الاستثناء الذي يثبت القاعدة، ذلك أن إقامة هؤلاء في الفندق كانت، بالتحديد، لكون الفندق مكان عبور موقتاً، ما يشعر الواحد منهم بأنه عابر في هذا الكون، على عكس البيت الذي يشعر بالاستمرارية.
أماكن مفضلة
من هنا، لم يكن غريباً على فنان من طينة الأميركي إدوارد هوبر، أن يجعل موضوع الفندق، بالتالي المقهى والمطعم، والقطار ومحطات البنزين وصولاً إلى صالة العرض السينمائي، أماكن مفضلة للوحاته، هو الذي جعل العدد الأكبر من هذه اللوحات تعبيراً عن عزلة الإنسان في المجتمع الحديث، كما عن صعوبة التواصل بين البشر. ولئن كان هوبر قد أوصل هذه المعاني إلى ذروتها في لوحته الأشهر "صقور الليل" (1942)، حيث نشاهد من الخارج ذلك المنظر الذي بات يعد الأكثر دلالة في تاريخ الإبداع الأميركي في القرن الـ20: شخصيات عدة داخل مقهى، أو مطعم، ليلي جالسة معاً، لكن من الواضح أن كل واحد منها يعيش عزلته، وتحديداً لا تواصله مع الآخرين. هذه العزلة هي، في الأحوال كافة، الموضوع الأساس الذي هيمن على العدد الأكبر من لوحات هوبر. إننا وإن كنا نشاهد في بعض هذه اللوحات شخصيات تنظر إلى شخصيات أخرى، فإن النظرة تظل لا تبادلية، بالتالي تكثف من شعور العزلة، كما الحال مثلاً في لوحة "الحافلة ذات المقاعد" التي رسمها هوبر سنة 1965. وهو الموضوع نفسه الذي عبر عنه هوبر، على أي حال، في لوحاته "الفندقية"، أي التي تدور مشاهدها في غرف الفنادق أو بهوها، أو على شرفاتها. ولعل الأشهر بين هذه اللوحات تلك المسماة "بهو الفندق" التي رسمها هوبر سنة 1943 وهي الآن معلقة في متحف إنديانابوليس.
أصحاب الحلم
هذه اللوحة التي يزيد عرضها قليلاً على 103 سنتيمترات، وارتفاعها نحو 82 سنتيمتراً، هي واحدة من اللوحات التي ما إن يلمحها المرء حتى يدرك أنها من أعمال هوبر، تشي بهذا ألوانها وخطوطها، والديكور في صورة إجمالية، ولكن تشي به أيضاً الشخصيات. هذه الشخصيات التي نلاحظ، مرة أخرى، كيف أن هوبر يختارها من الطبقة الوسطى، صاحبة الحلم الأميركي بامتياز، ليجعل لها في جلستها، والعلاقة المشهدية بينها، "ميزانسين" خاصاً من الصعب افتراض وجوده لدى غيره من الفنانين. في نهاية الأمر يبدو المشهد من هذا النوع لدى إدوارد هوبر سينمائياً بامتياز. وهذا ما عبر عنه الناقد برايان دوهرتي الذي يعد من أفضل دارسي فن إدوارد هوبر حين يقول إن اللوحة لدى هوبر "تبدو أحياناً، للوهلة الأولى، وكأنها تقترح وجود حركة ما في المشهد أو تبادلاً معيناً، لكن تأملاً فيها يكشف عن أن الرسام ثبت عناصر المشهد، أي عناصر اللوحة بالتالي، في صورة تبدي هذا المشهد وكأنه لقطة سينمائية كانت في الأصل متحركة، لكن يداً ما ثبتتها على اللوحة"، في صورة توحي أن ثمة حركة من قبل وحركة من بعد، وما الجمود الحالي سوى لحظة عابرة قد لا تكون حقيقية.
توزيع هندسي
ينطبق هذا القول انطباقاً تاماً على اللوحة التي نتحدث عنها هنا، حيث لدينا أساساً ثلاث شخصيات تشغل الديكور موزعة في بهو الفندق بحركة هندسية تتناسب تماماً مع حركة الخطوط: فالسيدة الجالسة تقرأ إلى يسار اللوحة تبدو متلائمة هندسياً مع الكنبتين المتجاورتين اللتين تشغل هي إحداهما. إنها ثابتة في قراءتها، لكن ثمة ما يوحي بالحركة المتواصلة، من عقد الساقين، إلى الإمساك بالصفحات. إن ما هو مقترح هنا هو أن هذه السيدة لن تلبث بعد ثوانٍ أن تقلب صفحة جديدة من الكتاب، تزامناً مع تبديل عقد ساقيها. من هنا يبدو جمودها خادعاً. في المقابل يبدو الرجل الكهل بوقفته والمعطف الذي يحمله على ذراعه اليمنى، وكأنه دخل لتوه من الباب الذي خلفه وهو في سبيله إلى أن يكمل مساره. السيدة الجالسة قربه تنظر إليه. إنها تبدو في رفقته وكأنها تحادثه، لكن نظرته المبتعدة عنها ووقفته الموقتة قد تشيان بأن نظرتها إليه إنما هي محاولة تواصل لا استجابة تقابلها. وهي في هذا تبدو شبيهة بنظرة تلقيها راكبة في لوحة "الحافلة ذات المقاعد" على راكبة أخرى تبدو غارقة في القراءة، كما بنظرة يلقيها النادل في "صقور الليل" على الزبون الصامت في تأمله المبتعد. ما هذه النظرات، كما يمكننا أن نخمن، سوى محاولات (يائسة!!) للتواصل... وهي يائسة، كما نفترض، لأنها تبقى من دون استجابة تحديداً.
عالم افتراضي
غير أن كل هذه الاقتراحات، تبقى افتراضية، ذلك أن من الواضح أن الالتباس الذي يطالع المرء في تأمله اللوحة أو غيرها من لوحات هوبر المشابهة إنما هو التباس مقصود اعتدنا عليه في تلك اللوحات، بيد أن الالتباس هنا سرعان ما يبدو متخذاً سماتٍ مختلفة بعض الشيء، إذ إن تركيز هوبر في هذه اللوحة، يتجه صوب إقامة التعارض بين الصبية الشقراء التي تبدو غارقة في القراءة، ومع هذا توحي جلستها ولون شعرها والنور الغامر الذي ساقها، بمقدار كبير من توتر متضاد مع جمودية المشهد، بينما في المقابل يبدو الكهل والكهلة، لدى تأمل أكثر تعمقاً، أنهما إنما دخلا معاً أو هما على وشك الخروج معاً، مما يجعل إيحاء الحركة من نصيبهما على الضد من جمودية جلسة القارئة، ومع هذا ثمة ما يمنعنا من الاستغراق في تأويل من هذا النوع، وهو إحساسنا أن شحوب لون الكهلين وافتراق نظرتيهما، إنما يجعلان منهما أشبه بموديلات خشبية من النوع الذي يضعه الخياطون في حوانيتهم (وفق ملاحظة أوردها رولف رينير في كتاب له عن هوبر). إذاً، ما لدينا هنا، في الحقيقة، إنما هو تكوين جامد لشخصيتين تبدوان متحركتين، في مقابل تكوين حيوي لشخصية تبدو جامدة. وثمة كثير مما يفترض أن هذا التعارض التناقضي، إنما جاء مقصوداً من جانب الرسام، الذي كثيراً ما ملأ لوحاته بهذا النوع من التعارض، الذي لم يفُته أن يربطه، فلسفياً، بموقع إنسان العصر من الديناميات، أو اللا ديناميات، التي تحيط به في كل لحظة من لحظات وجوده، وفي كل مشهد من مشاهد حياته اليومية. وإذا كان إدوارد هوبر قد اختار الفندق أو المقهى أو المطعم أو عربات القطار ديكوراً لمثل هذه المشاهد، فما هذا إلا لأنه يعد في الأصل أن خير مكان يعبر فيه عن الجمود والانفصام بين الناس إنما هو المكان الذي يفترض به أن يكون مكان الحركة الدينامية الأساس.
تناقضات العصور الحديثة
من هنا اعتبر إدوارد هوبر (1882-1967) دائماً وعن حق، الفنان الأميركي الذي عبر أكثر من أي فنان مواطن له عن تناقضات العصور الحديثة، وعن مآل ذلك الحلم الأميركي الذي كان هدفه الأساس الجمع بين البشر لتحفيز الجميع على خوض مغامرة النجاح والعيش الجماعيين، فإذا بكل واحد من هؤلاء البشر يصبح جزيرة معزولة.
وُلد هوبر في الولايات المتحدة ومات فيها، لكنه أمضى سنوات عدة من حياته في أوروبا، وفي فرنسا خصوصاً. ومن الواضح أن تكوينه الأميركي (النيويوركي بخاصة)، سيبدو لديه متعارضاً مع ثقافة اكتسبها في أوروبا، وكانت هي ما أضفى على أفكاره وفنه ذلك البعد التساؤلي الوجودي الذي نادراً ما كان حاضراً في الفن التشكيلي الأميركي زمن هوبر، أي خلال النصف الأول من القرن الـ20 في الأقل.