ملخص
مكالمة هاتفية جمعت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبدالمجيد تبون، حملت في طياتها اتفاقات مهمة حول قضايا حساسة، منها الهجرة والتعاون الأمني وترميم آثار التاريخ الاستعماري لباريس في الجزائر، وتأكيد الطرفين ضرورة تعزيز الشراكة الاقتصادية بين البلدين من جديد بصورة مستدامة.
بعد فترة من التوتر بين الجزائر وفرنسا جاءت المكالمة الهاتفية بين الرئيسين إيمانويل ماكرون وعبدالمجيد تبون لتشكل منعطفاً مهماً في مسار العلاقات بين البلدين، هذا الاتصال لم يكن مجرد خطوة بروتوكولية، بل حمل في طياته اتفاقات مهمة حول قضايا حساسة، مثل التعاون الأمني والهجرة، إضافة إلى تأكيد الطرفين ضرورة تعزيز الشراكة الاقتصادية.
وأبدت فرنسا استعدادها لمراجعة اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، في خطوة تعكس رغبة باريس في تهدئة الأجواء وإعادة بناء الثقة، وفي هذا السياق، يطرح التساؤل: ما الأسباب التي دفعت الجزائر إلى إعادة فتح قنوات التواصل مع باريس؟ وما آفاق هذا التقارب؟
دوافع وخلفيات التقارب
بخصوص الأسباب التي دفعت الجزائر إلى إعادة فتح قنوات التواصل مع باريس، يشير أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية حسام حمزة إلى أن مفتاح هذا التحول يكمن في تحليل الخطاب الرسمي، الذي يوضح تباين المواقف الفرنسية.
ويضيف حسام حمزة أن الجزائر اعتمدت على قراءة دقيقة لمواقف إيمانويل ماكرون، حين لاحظت التفريق بين تصريحات الرئيس وتوجهات اليمين المتطرف في حكومته، بخاصة تصريحات وزير الداخلية، وخلصت الجزائر إلى أن ماكرون إضافة إلى وزير الخارجية جون نويل بارو لا يتبنيان خطاباً عدائياً أو يوظفان الإرث الاستعماري في تعاملاتهما مع الجزائر، مما مهد الطريق لاستئناف التعاون بين البلدين.
ويؤكد حمزة أن الجزائر ترى أن القرار الفعلي في السياسة الخارجية الفرنسية يعود إلى الرئيس الفرنسي، وليس للأصوات المتشددة داخل حكومته، مما عزز فرص استئناف الحوار ضمن الأطر التي حددها البيان الرئاسي الجزائري.
وفي حديثه عن استئناف العلاقات، يعتقد أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن الجزائر قررت العودة إلى الحوار استناداً إلى إرادة سياسية واضحة، تجلت في توقيع "إعلان الجزائر من أجل شراكة متجددة بين الجزائر وفرنسا" في أغسطس (آب) 2022، خلال زيارة ماكرون إلى الجزائر، ومع ذلك، يشير حمزة إلى أن النتائج التي تلت هذا الإعلان لم تكن كافية لتجاوز الخلافات المستمرة بين البلدين، مما يطرح تساؤلات حول مدى كفاية الإرادة السياسية لتجاوز الصعوبات.
وأشار إلى أن هناك عاملاً آخر لا يمكن تجاهله، وهو التبعية المتبادلة بين الجزائر وفرنسا، التي تظل عاملاً محورياً في الحفاظ على العلاقة بين الطرفين، فعلى رغم الخلافات تدرك فرنسا أن استقرار علاقاتها مع الجزائر يعد أمراً حيوياً لضمان استقرارها الداخلي، بينما تدرك الجزائر أهمية العلاقات مع فرنسا خاصة في ما يتعلق بالملفات الإقليمية كالصحراء الغربية.
بخصوص استئناف التعاون في مجالي الأمن والهجرة، يرى حمزة أنه مجرد استعادة للتعاون الذي كان قائماً قبل الأزمة الأخيرة، موضحاً أن الأزمة نشأت بسبب التصريحات والمواقف الفرنسية التي لم تحترم الاتفاقات المتعلقة بالمهاجرين الجزائريين، ويضيف أنه على رغم ذلك، يُعد استئناف التعاون في هذين الملفين رداً على المواقف الفرنسية، من دون أن يكون هناك أية نية جزائرية للتقويض أو الابتزاز، بل على العكس، يسعى الطرفان إلى التركيز على تعزيز الأمن المشترك، مؤكداً أن الزيارات المرتقبة لوزراء فرنسيين قد تكون حاسمة في تحديد مدى جدية فرنسا في الاستجابة للمطالب الأمنية الجزائرية، خاصة في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب.
الذاكرة التاريخية: عائق رئيس في المصالحة
من أبرز القضايا التي قد تؤثر في استدامة المصالحة الجزائرية - الفرنسية، ملف الذاكرة التاريخية، إذ يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية أن هذا الملف يعد من أكثر القضايا تعقيداً في العلاقات بين البلدين، كذلك فإن اعتراف فرنسا بجرائم الاستعمار في الجزائر، قبل الاعتذار، سيكون خطوة مهمة نحو تحسين العلاقات، لكنه يرى أن هذا الاعتراف ما زال مستبعداً في الوقت الحالي، وفي حين تصر الجزائر على ضرورة إنصاف الحقيقة التاريخية بوضوح، ترفض فرنسا الاعتراف بمسؤوليتها عن الجرائم الاستعمارية، بل تسعى إلى طمس الحقائق وإخفاء الأدلة.
ردود الأفعال الجزائرية
حول رد فعل النخب السياسية والمجتمع المدني في الجزائر تجاه هذا التحول المفاجئ في العلاقات، يشير حسام حمزة إلى أن الخطوة قوبلت بتفاجؤ شديد من قبل كثير من الأطراف، فقد جاء بيان رئاسة الجمهورية الجزائرية بلغة "ودية" وناعمة، بعيدة تماماً من لغة التحدي والندية التي كانت سائدة في تصريحات سابقة، ويستشهد حمزة بتصريح الرئيس الجزائري في فبراير (شباط) الماضي، حين قال إن "الوقت يُهدر مع الرئيس ماكرون"، ليؤكد أن الانتقال المفاجئ إلى لغة تُظهر الثقة في ماكرون أثار تساؤلات كبيرة لدى الرأي العام الجزائري، الذي لم يفهم سبب هذا التحول المفاجئ في الموقف.
وفي ما يتعلق بمواقف الأحزاب السياسية الجزائرية، يلاحظ أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية حسام حمزة أنه لم يطلع على أي موقف رسمي يتعلق بهذا التحول، ولكن بصورة عامة، يرى حمزة أن مواقف الأحزاب اتسمت بالصمت، في حين دخلت وسائل الإعلام في حال من "البحث عن الحقيقة"، بسبب سرعة التحول والمفاجأة التي صاحبت هذا التغيير في المواقف.
ويؤكد حمزة أن هناك دائماً أطرافاً جزائرية تشكك في جدوى التقارب مع فرنسا، معتبراً أن هذه الحال من الشك والتوجس تُعد أمراً صحياً، لأنها تبقي صانع القرار الجزائري في حال من الحذر واليقظة، مما يساعده على تجنب الوقوع في فخاخ قد تنصبها له فرنسا، وبخصوص المستقبل، يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، أن تعميق العلاقات بين الجزائر وفرنسا في مجالات أخرى مثل الاقتصاد ممكن، ولكنه مرهون بتقدم التعاون في مجالي الأمن والهجرة، ويعتقد أن الجزائر تنتظر من فرنسا "مستحقات" مقابل استعادة العلاقات، وفقاً لقاعدة المصالح المتبادلة بين الطرفين، مؤكداً أن الأشهر المقبلة ستكون حاسمة في تحديد ما إذا كانت هذه العلاقات ستقتصر على الأمن والهجرة أم ستشمل مجالات أخرى ذات أهمية إستراتيجية للطرفين.
العلاقات الجزائرية - الفرنسية: بين المصالحة الحذرة والمصالح الإستراتيجية
يرى المحلل السياسي المتخصص في الشأن الفرنسي، نبيل شوفان، أن المكالمة بين إيمانويل ماكرون وعبدالمجيد تبون، بعد أكثر من ثمانية أشهر من التوتر تعيد إحياء احتمالات عودة العلاقات إلى طبيعتها وربما تضع البلدين من جديد على طريق مصالحة الذاكرة بعد العاصفة الأخيرة التي ألمت بالعلاقات بينهما.
وأوضح المحلل السياسي أن مشروع المصالحة بدأه الرئيس الفرنسي بمجرد انتخابه حين فتح ماكرون الطريق أمام المصالحة ووصف الاستعمار الفرنسي للجزائر بأنه جريمة ضد الإنسانية، كذلك كرم الجزائريين الذين قُتلوا على يد الشرطة الفرنسية في الـ17 من أكتوبر (تشرين الأول) 1961 في باريس، وأطلق حملة تذكارية غير مسبوقة لتضميد جراح التاريخ، التي تُوجت عام 2021 بتقرير للمؤرخ بنجامين ستورا وإنشاء لجنة مشتركة من المؤرخين الفرنسيين والجزائريين، التي جُمد عملها الآن.
وأشار إلى أن ماكرون لم يفقد صبره على رغم تعرضه لانتقادات تتعلق بعدم تحقيق نتائج ملموسة لمحاولات التقارب، إذ لم تؤد حتى الآن إلى إطلاق مشاريع كبرى أو برامج تعاون إستراتيجي واضح، وأكد أن العلاقات الفرنسية - الجزائرية محكوم عليها بالحدة، وقد باتت تطرح تساؤلات حول أسباب عدم قدرتها على اتباع مسار المصالحة الناجح بين فرنسا وألمانيا، على رغم وجود المصالح المشتركة بدءاً من الأمن ومكافحة الإرهاب، إذ تلعب الجزائر دوراً رئيساً في استقرار المنطقة بينما تلتزم فرنسا محاربة الإرهاب مما يشكل أرضية مشتركة لتعزيز التعاون، ثم تأتي إدارة تدفقات الهجرة التي تعتبر قضية أمنية لكلا البلدين، وصولاً إلى التبادلات الاقتصادية في الطاقة المهمة لفرنسا والاستثمار المهم للجزائر التي تبحث عن تنويع دخلها.
ولفت إلى أن الجزائر تعد قوة مهمّة في مجال الطاقة، بينما تعد فرنسا أحد زبائنها الرئيسين في قطاع الغاز، إذ تمثل الإمدادات الجزائرية ما بين ستة وسبعة في المئة من احتياجات فرنسا، لكنه أشار إلى أن الأزمة الأخيرة أثرت في المصالح الفرنسية في الجزائر، إذ تضررت الشركات الفرنسية، وتراجعت التبادلات التجارية بنسبة وصلت إلى 30 في المئة في بعض القطاعات، لا سيما بعد توقف واردات القمح الفرنسي وتعليق إعادة تشغيل مصنع تابع لشركة "رينو" لصناعة السيارات.
كذلك أوضح أن من بين الملفات الشائكة التي أدت إلى تأزيم العلاقات بين البلدين، قضية إعادة الجزائريين غير النظاميين من فرنسا، وهي المسألة التي أثارها وزير الداخلية الفرنسي مراراً، وأضاف أن تقرير المديرية العامة للأجانب في فرنسا كشف عن أنه في عام 2024 "نسبة الإعادة القسرية أعلى من المتوسط بالنسبة إلى المبعدين الجزائريين"، ومن بين 34 ألف جزائري أوقفوا بسبب أوضاعهم غير النظامية، رُحل 3 آلاف العام الماضي.
وأكد أن الجزائر تحتاج إلى فرنسا التي تتمتع بنفوذ قوي داخل الاتحاد الأوروبي، بخاصة في ما يتعلق بمراجعة اتفاق الشراكة الاقتصادية مع بروكسل، وذكر أن هذا الاتفاق الذي دخل حيز التنفيذ عام 2005، ينص على الإلغاء التدريجي للرسوم الجمركية، وقد أبلغ ماكرون تبون دعم فرنسا لإعادة النظر فيه، مما يعكس رغبة باريس في الحفاظ على نفوذها الاقتصادي في الجزائر.
وأضاف أن تصريحات الرئيسين الأخيرة تعكس توجهاً نحو إعادة ضبط العلاقات وفتح قنوات الحوار، لا سيما في مجالي الأمن والهجرة، بخاصة أن التواصل بينهما أفضى إلى اتفاقهما على استئناف التعاون الفوري في هذين المجالين، إضافة إلى تجديد آليات العمل في ملف الذاكرة الذي يحمل طابعاً حساساً وتاريخياً.
ولفت إلى أن ذلك يظهر رغبة الطرفين في التزامهما إصلاح العلاقات بين بلدين تربطهما روابط إنسانية وإستراتيجية واقتصادية، لكن أيضاً فإن قضايا تاريخية وسياسية عميقة ستبقى تشكل عوامل هشاشة قد تعيد توتر العلاقات في المستقبل إذا لم يُتعامل معها بصورة شاملة، لذا يتوقع أن تبقى العلاقات بين باريس والجزائر قائمة على توازن دقيق بين الإرادة السياسية لإصلاح العلاقات وتفاصيل الخلافات الحالية.
وبين ضرورة معالجة الجراح التاريخية والخلافات المؤلمة، لأن الخلافات الحالية من قبيل ترحيل الجزائريين الذين تعتبر فرنسا أنهم يشكلون خطراً بوجودهم على أراضيها، وقضية الكاتب الفرنسي الجزائري بو علام صنصال، وغيرها ما تلبث أن تُربط بقضايا أكثر حساسية وتعقيداً، خصوصاً إذا ما عرفنا أن جزءاً من هذه المصالحة السريعة بعد أشهر من التوتر هو عملية براغماتية مدفوعة بضرورات إستراتيجية أكثر من الرغبة في تضميد جراح الماضي بصورة نهائية، وهذا يحد جزئياً من العمق الحقيقي للمصالحة، ويجعلها مشروطة بالنجاح الملموس للتعاون الجديد المعلن عنه.
أكد المحلل السياسي نبيل شوفان أن الاتصال بين الرئيسين إيمانويل ماكرون وعبدالمجيد تبون يعكس رغبة واضحة في إعادة الدفء إلى العلاقات الفرنسية - الجزائرية، بعد فترة من التوتر الحاد الذي شابها في الأشهر الماضية، موضحاً أن هذه الخطوة تأتي ضمن جهود دبلوماسية مكثفة، إذ شهدت الأشهر الأخيرة زيارات متكررة لمسؤولي الإليزيه إلى الجزائر في محاولة لإعادة بناء الثقة بين الجانبين.
وأشار شوفان إلى أن هذه المصالحة تبدو مدفوعة بضرورات إستراتيجية أكثر من كونها جهداً نهائياً لتضميد جراح الماضي، موضحاً أن العلاقات الفرنسية - الجزائرية كثيراً ما كانت معقدة بسبب تراكم الملفات التاريخية والسياسية العالقة، وقال إنه "من الواضح أن الطرفين يدركان أهمية إعادة ضبط العلاقات، بخاصة في مجالات الأمن والهجرة، إذ اتفق على استئناف التعاون الفوري في هذين الملفين".
وفي ما يتعلق بالقضايا الاقتصادية، شدد شوفان على أن فرنسا والجزائر بحاجة إلى بعضهما بعضاً، لا سيما في قطاع الطاقة، إذ تمثل الجزائر مورداً مهماً للغاز الفرنسي، وهو ما يجعل التعاون بين البلدين ضرورياً على رغم الخلافات السياسية، موضحاً "العلاقات الاقتصادية شهدت تراجعاً في الفترة الماضية، إذ تأثرت الشركات الفرنسية العاملة في الجزائر، وتراجعت التبادلات التجارية بنسب وصلت إلى 30 في المئة في بعض القطاعات، مما يجعل من مصلحة الطرفين إعادة النظر في التعاون التجاري".
أما في شأن قضية الهجرة، فأكد شوفان أنها لا تزال من أكثر الملفات حساسية، مشيراً إلى أن باريس ترغب في تسريع عمليات ترحيل الجزائريين غير النظاميين، وهو ما كان مصدراً لتوتر دائم بين البلدين، مضيفاً "وفقاً لتقرير المديرية العامة للأجانب في فرنسا، شهد العام الماضي ترحيل نحو 3 آلاف جزائري من أصل 34 ألفاً أوقفوا بسبب وضعهم غير القانوني، ومن المتوقع أن ترتفع الأرقام هذا العام".
وحول ردود الفعل على هذه المصالحة، أوضح شوفان أن المواقف كانت متباينة، إذ رحبت بعض الأوساط السياسية في فرنسا بهذه الخطوة واعتبرتها ضرورية، بينما يرى آخرون، مثل رئيس الحزب الجمهوري لوران فوكييه، أنها "تنازل غير مبرر" من جانب ماكرون، أما في الجزائر، فكان هناك ترحيب حذر، إذ يشدد كثير من المراقبين على ضرورة أن تقترن المصالحة بخطوات ملموسة لمعالجة الملفات العالقة، بدلاً من أن تبقى مجرد تصريحات دبلوماسية.
وفي سباق التحديات يشير شوفان إلى أن التحدي الأكبر هو الإفراج عن الكاتب الفرنسي - الجزائري بوعلام صنصال، إذ دعا ماكرون خلال مكالمته الهاتفية نظيره تبون إلى القيام "ببادرة رأفة وإنسانية" تجاه الروائي "نظراً إلى عمره وحالته الصحية"، ويجري الحديث عن عفو رئاسي وأنه ما لم تكن هناك أزمة جديدة بين البلدين، لن يتخلف الرئيس تبون عن الاستجابة لطلب نظيره الفرنسي، لكن سيبقى اعتراف إيمانويل ماكرون بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية مثيراً لغضب الجزائر، حسب اعتقاد المحلل.