ملخص
أسعار لحم الضأن زادت 21.9 في المئة والخضراوات الطازجة صعدت 20 في المئة والغلال 15 في المئة
"شتان بين ما يعلن عنه من تحكم في التضخم وتراجعه والواقع الملموس وحقيقة الأسعار المستعرة في تونس بتسجيل مستويات قياسية لحزمة كبيرة من أصناف الغلال والخضراوات والمواد الغذائية"، كلمات للمواطن الهادي المحواشي لدى تجواله بأحد محال بيع الخضراوات والغلال في تونس العاصمة.
ويعجز المتحدث لـ"اندبندنت عربية" عن ملء قُفَّته بأدنى المستلزمات مقتصراً على صنف أو صنفين من (الفراولة أو البرتقال) وبعض الخضراوات في مشهد ألفه التونسيون منذ بداية العام الحالي لما لاحظوه من الارتفاع غير المبرر لديهم بتسجيل أسعار لافتة.
وتشهد أثمان عديد المنتجات في تونس في الفترة الأخيرة زيادة مهمة جعلت عدداً كبيراً من التونسيين يتذمرون من الغلاء اللافت ويطلقون نداءات متكررة إلى أعلى سلطة في البلاد، رئيس الدولة، للتدخل مباشرة لوقف نزيف اهتراء القدرة الشرائية توفير منتجات بأسعار مقبولة تضاهي قدرتهم الاستهلاكية الآخذة في التدني من عام لآخر.
ويقر الهادي المحواشي، الستيني المتقاعد بعد عمل في قطاع التعليم في البلاد بأنه يلاحظ زيادة غير مبررة في أثمان المواد الغذائية، وبخاصة أسعار الخضراوات والغلال منتقداً أن طهي الطبق الشعبي في تونس ما يعرف "الشكشوكة" باللهجة التونسية (أكلة أساسها الفلفل والبطاطا والطماطم) بات مكلفاً وفي بعض الأحيان مستعصياً، وفق اعتقاده.
فارق شاسع
بين البيانات الرسمية الصادرة من المعهد الإحصاء الحكومي في تونس حول التحكم في نسب التضخم وواقع معيش للتونسيين، فارق شاسع وهوة كبيرة بين ما هو مجرد أرقام ومعطيات وحقيقة الأسعار المتداولة في غالب أسواق البلاد.
ولئن تؤكد بيانات معهد الإحصاء تراجع نسبة التضخم في تونس من 10.4 في المئة في فبراير (شباط) 2024 إلى 5.9 في المئة في مارس (آذار) الماضي، فإن واقع التونسي مغاير تماماً بتسجيله مستويات مرتفعة لأثمان جل المواد التي صعدت بصورة مهمة، وبخاصة في رمضان الماضي، وأن معاناتهم صارت مضاعفة بسبب غلاء الأسعار واختفاء المواد الأساسية من الأسواق.
ويعترف الهادي الذي يعيش رفقة زوجته بأنه بات يشتري الخضراوات والغلال بكميات محدودة للغاية، إلى درجة أنه يقتني الغلال بحسب عدد أفراد أسرته.
ويجزم بأن كلف المعيشة تعرف ارتفاعاً متواصلاً، وأنه لا صحة لما يجرى تداوله في شأن هبوط مستوى التضخم في تونس، ويرى أن الأسعار صارت مستعرة في البلاد مع بداية العام الحالي، وتعمقت أكثر في شهر رمضان مدهوشاً من بلوغ سعر الكيلوغرام الواحد من لحم الضأن مستوى تاريخي بلغ 60 ديناراً (20 دولاراً) إذ لم يعد التونسي المتوسط مثل حاله أن "يتجرأ" أو أن يجازف باقتناء كيلو واحد فقط من لحم الضأن.
ارتفاع أسعار المواد الغذائية
التناقض الصادم واللافت للانتباه أن معهد الإحصاء الحكومي يقول إن نسبة التضخم العامة بلغت 5.9 في المئة في الشهر الماضي، مما يعد في نظر المسؤولين أمراً محموداً، لكن مع مزيد التمعن والتعمق في الأرقام والمؤشرات تبرز مسألة غير طبيعية، إذ كيف يجرى تسجيل نسبة تضخم أقل من 6 في المئة بينما بقية مجموعات الاستهلاك والمنتجات تعرف ارتفاعاً لافتاً بلغ رقمين.
في غضون ذلك يرى معهد الإحصاء أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية أسهم في عودة التضخم إلى مستويات أعلى من الأشهر الماضية ببلوغه 5.9 في المئة خلال مارس الماضي مقابل 5.7 في المئة في فبراير الماضي. وأكد أن تطور أسعار المواد الغذائية تزامن مع رمضان، شهر الاستهلاك بامتياز، إذ بلغت نسبة تضخم مجموعة المواد الغذائية في مارس نسبة 7.8 في المئة مقابل 7 في المئة خلال فبراير السابق عليه، ونسبة تضخم مجموعة الملابس والأحذية 11.7 في المئة مقابل 9.7 في المئة خلال فبراير الماضي.
ولئن ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 7.8 في المئة فإن أسعار لحم الضأن زادت بنسبة 21.9 في المئة وأسعار الخضراوات الطازجة بنسبة 20 في المئة، وأسعار الغلال الطازجة بـ15 في المئة والأسماك الطازجة بـ14.1 في المئة، وأسعار الدواجن 13.9 في المئة، مقابل تراجع أسعار الزيوت الغذائية 19.9 في المئة بسبب نقص توريد هذه المادة في الأشهر الأخيرة.
وتذمر عدد كبير من التونسيين في شهر رمضان من الارتفاع اللافت في عديد من المواد الغذائية، لا سيما الخضراوات والغلال وبخاصة اللحوم الحمراء المحلية التي بلغت مستويات قياسية ناهزت 60 ديناراً (20 دولاراً) للكيلوغرام الواحد من لحم الضأن على رغم مجهودات وزارة التجارة بتوفير لحوم مبردة موردة من إيطاليا بأسعار مناسبة لم تتجاوز 40 ديناراً (13 دولاراً)، لكن الكميات بقيت دون الطلب المتزايد.
التضخم الملموس
ويؤكد المتخصص في الشأن الاقتصادي بالجامعة التونسية رضا الشكندالي أن الارتفاع الفعلي للأسعار يقاس من خلال سلة المواد الأساسية التي تجاوزت نسب الزيادة فيها 20 في المئة، وهو ما يشكل وفق رأيه التضخم الحقيقي الملموس من قبل المواطنين.
وأضاف لـ"اندبندنت عربية" أن ارتفاع نسبة التضخم خلال شهر رمضان ليس بالأمر الجديد في تونس إذا ما علمنا أن النسبة زادت أيضاً خلال مارس 2024، الذي وافق شهر رمضان في ثلثيه، وقدر التضخم حينها بـ7.5 في المئة، وكان ارتفاع هذه النسبة طفيفاً خلال مارس الماضي بعد تراجعها خلال فبراير والأشهر السابقة.
وأردف بالقول "هذا لا يعني أن المستوى العام للأسعار انخفض، بل العكس صحيح، بخاصة، إذا علمنا أن المقدرة الشرائية للمواطن تواصل انحدارها من رمضان إلى آخر".
ورأى في تحليله أن نسبة التضخم التي جرى تسجيلها خلال مارس الماضي والبالغة 5.9 في المئة، لا انعكاس لها على واقع المستهلكين في تونس، بل إنه لا يصلح إلا لرسم سياسات الاقتصاد الكلي في الوقت الذي يهتم المواطن كثيراً لما ينفقه يومياً نظير الحصول على المواد الأساسية على غرار المواد الغذائية والخدمات الضرورية مثل الخدمات الصحية والتعليم، وهي سلة خدمات استهلاكية أسعارها أعلى بكثير من المعدل العام للتضخم.
محرار حقيقي
ويتابع الشكندالي حديثه بتأكيد أن تضخم أسعار المواد الأساسية يعد المحرار الحقيقي الذي يقيس به المواطن التونسي الارتفاع الفعلي للأسعار، بالتالي تدهور مقدرته الشرائية.
ويتحسس المواطن هذا الارتفاع من خلال أسعار لحم الضأن، التي زادت بـ21.9 في المئة، والخضراوات الطازجة بـ20 في المئة والغلال الطازجة بـ15 في المئة والأسماك الطازجة بـ14 في المئة والدواجن بـ14 في المئة والملابس والأحذية بـ11.7 في المئة وخدمات المطاعم والمقاهي والنزل بـ11.3 في المئة.
تباين في المؤشرات
ويقر المحلل المالي بسام النيفر بوجود تباين في مؤشرات التضخم المفصح عنها رسمياً والواقع المحسوس، مشيراً إلى أن كل المؤشرات تؤكد أن تونس دخلت في مرحلة ركود تضخمي.
ويقول إن غالب المتخصصين في الاقتصاد الكمي يؤكدون وجود خلل في منظومة حساب مؤشر التضخم، ذلك أن كل نزول في النسبة يفترض أن يقابله تراجع في مؤشر الأسعار وزيادة في نسب النمو، بينما يحصل العكس بالنسبة إلى تونس.
ويرى أن مؤشر التضخم في بلاده يحيط به لبس، وُيطرح حوله عديد من التساؤلات، مرجحاً أن تكون هناك نية رسمية نحو تأطيره بهدف حوكمة الزيادة في الأجور وخفض نسبة الفائدة.
وتشهد الأسعار في أسواق تونس زيادة متسارعة منذ عام 2022، إذ تأثرت بسنوات عدة من الجفاف أثرت في المحاصيل الزراعية بتبعات الحرب الروسية - الأوكرانية كما بقية اقتصادات العالم، فضلاً عن تداعيات الجفاف، مما تسبب في تضخم قياسي عالجه البنك المركزي التونسي بزيادة أسعار الفائدة في 5 مناسباًت قبل أن يجري مراجعتها أخيراً إلى 7.5 في المئة.
وتسبب التضخم والغلاء في إحباط كل محاولات تحسين موارد الأسر، لا سيما طبقة الموظفين الذين حصلوا على زيادات في الدخول لا تزيد على 471 ديناراً (150 دولاراً) خلال الفترة بين 2015 و2022، وفق بيانات لمعهد الإحصاء الحكومي.
ويعتقد بسان النيفر أن تواصل ارتفاع أسعار الغذاء والخدمات من أبرز أسباب عدم شعور المواطنين بتأثير تراجع التضخم على حياتهم اليومية.
ويقول إن مجموعتي الغذاء والخدمات لم تسجلا تراجعاً على مستوى الأسعار على رغم أهميتهما في سلة الإنفاق، وهو ما يفسر تواصل الضغوط التضخمية على رغم تراجع النسب رسمياً. ويضيف بالقول "في ظل تواصل النسق التصاعدي لأسعار الغذاء، لا بد من تحسين القدرة الشرائية للأسر عبر مصادر مالية بديلة، من بينها خفض سعر الفائدة على القروض لإسعاف ثلثي الأسر المدينة للمصارف".
في الأثناء يكابد الهادي غلاء الأسعار المستشري عمقه الاحتكار والمضاربات المتواصلة في منتجات عدة أبرزها الخضراوات والغلال.