ملخص
زادت موجة البيع للسندات الأربعاء الماضي، بما جعل معظم المحللين والاقتصاديين يتوقعون تدخل الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي في السوق بشراء السندات لوقف الاضطراب
مع تصاعد الحرب التجارية التي بدأتها الإدارة الأميركية الجديدة للرئيس دونالد ترمب الأربعاء الماضي بإعلان فرض رسوم تعريفة جمركية عالية على شركاء أميركا حول العالم، بدأت أسواق السندات بالاضطراب مما ينذر بانسحاب تبعات الأزمة على النظام المالي العالمي.
ويبدو من تصريحات القوة الاقتصادية الثانية في العالم، الصين، بأنها على استعداد للحرب التجارية إلى ما لا نهاية فإن تبعات تلك الحرب لن تقتصر على النظام التجاري العالمي، بل ستمتد إلى بقية قطاعات الاقتصاد، فقد ردت الصين على قرار ترمب رفع التعريفة الجمركية على الصادرات الصينية بالمثل وأضافت نسبة 50 في المئة أخرى للرسوم على الصادرات الأميركية لتصبح التعريفة الصينية عند 84 في المئة.
كان ترمب فرض في البداية ضمن حزمة ما أعلنه الأسبوع الماضي رسوم تعريفة جمركية على الصين بنسبة 34 في المئة، أضيفت إلى نسبة 20 في المئة سابقة، وردت بكين على الفور بفرض رسوم تعريفة جمركية على الصادرات الأميركية بنسبة 34 في المئة بدأ تطبيقها أول من أمس الخميس.
فرد ترمب بمضاعفة رسوم التعريفة الجمركية على صادرات الصين لتصل في إجمالها إلى نسبة 104 في المئة.
أدى ذلك إلى عودة الفزع في الأسواق العالمية التي كانت بدأت تتوازن بعد خسائرها الهائلة الأسبوع الماضي، وعادت مؤشرات أسواق الأسهم للهبوط مجدداً مع توقع مزيد من التصعيد في الحرب التجارية وتأثيراتها في الاقتصاد.
اضطراب سوق السندات
مع أنه معروف تقليدياً أن سوق السندات تتناسب في أدائها عكسياً مع أسواق الأسهم، أي حين تهبط أسعار الأسهم ترتفع أسعار السندات، ومن ثم تقل نسبة العائد عليها، إلا أن ما حدث هذا الأسبوع كسر تلك القاعدة، مع موجة بيع هائلة لسندات الدين أدت إلى هبوط قيمة السندات وارتفاع معدلات العائد عليها.
بدا ذلك واضحاً الثلاثاء الماضي حين طرحت وزارة الخزانة الأميركية مزاداً للسندات القصيرة الأجل لمدة ثلاثة أعوام بقيمة 58 مليار دولار ولم يشهد سوى إقبال ضعيف من المستثمرين في الديون.
وزادت موجة البيع للسندات الأربعاء الماضي، بما جعل معظم المحللين والاقتصاديين يتوقعون تدخل الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي في السوق بشراء السندات لوقف الاضطراب.
ويرجع الاضطراب في سوق السندات، والمرجح أن يستمر، إلى تخلص صناديق التحوط مما لديها من سندات الخزانة التي تعد ملاذاً آمناً عن الأسهم لأنها ترى زيادة أخطار في الاحتفاظ بها، وذلك مؤشر إلى احتمال انفجار أزمة ديون عالمية، إذا لم تتم تهدئة أسواق السندات، إذ تعد صناديق التحوط من كبار المستثمرين في سندات الخزانة بتريليونات الدولارات، ويعني خروج تلك الصناديق وغيرها من المستثمرين المؤسساتيين في سندات الدين عمليات بيع هائلة تهوي بأسعار السندات ومن ثم ارتفاع نسبة العائد عليها.
والأربعاء الماضي، ارتفع العائد على سندات الخزانة الأميركية المتوسطة الأجل لمدة 10 أعوام، التي تعتبر المؤشر القياسي لسوق السندات، إلى نسبة 4.31 في المئة مقارنة مع نسبة 3.9 في المئة مطلع الأسبوع.
ويماثل الاضطراب في سوق السندات الآن ما حدث في بداية أزمة وباء كورونا عام 2020 حين سارع المستثمرون بالتخلص من سندات الدين فهوت أسعارها.
ما حدث في سوق السندات الأميركية تردد صداه في أسواق السندات الكبرى حول العالم، فقد شهدت سوق سندات الدين الحكومي الياباني عمليات بيع كبيرة فارتفع العائد على السندات الطويلة الأجل لمدة 30 عاماً إلى أكثر من نسبة 2.8 في المئة وهي أعلى نسبة عائد على تلك السندات منذ 21 عاماً، وارتفع العائد على سندات الخزانة البريطانية الطويلة الأجل لمدة 30 عاماً بربع نقطة مئوية كاملة ليصل إلى نسبة 5.59 وهي أعلى نسبة عائد منذ عام 1998.
استمرار الاضطراب
أهمية الاضطراب في سوق السندات أنه إنذار بما يواجه سوق الدين العالمي التي تضخمت إلى حد الفقاعة في الأعوام الأخيرة، خصوصاً ما قبل أزمة وباء كورونا وخلالها حين كانت معدلات الفائدة متدنية وقرب الصفر، مما شجع على الاقتراض الكثيف.
يزيد حجم الدين الأميركي عن 36 تريليون دولار وتستمر الخزانة الأميركية في الاقتراض لتمويل العجز عبر إصدار مزيد من السندات، ومعنى تردد ممولي ذلك الدين في شراء سنداته أن أزمة دين عالمي تلوح في الأفق.
وكان مزاد سندات الخزانة الثلاثاء الماضي مؤشراً على ذلك، وعين الأسواق الآن على مزاد ثان الأربعاء لسندات متوسطة الأجل لمدة 10 أعوام بقيمة 39 مليار دولار.
في ظل التوتر المتصاعد ضمن الحرب التجارية يمكن أن يحجم مستثمرون في سندات الخزانة، غير صناديق التحوط، عن حيازتها، فعلى سبيل المثال تعتبر الصين من أكبر المشترين لسندات الخزانة الأميركية هي واليابان، وفي حال شعر الجميع بأن سوق السندات لم تعد آمنة في ظل سياسات إدارة ترمب الحالية فإن استمرار البيع بكميات هائلة للسندات وارتفاع العائد عليها ينذر بكارثة حقيقية في النظام المالي العالمي كله.
كتب مسؤول الإستراتيجيات في شركة "يارديني ريسيرش" إد يارديني في مذكرة للعملاء الأربعاء الماضي، يقول إن "متابعي أسواق الأسهم والسندات يرون أن إدارة ترمب ربما تلعب بنيتروجين سائل (أي على وشك إشعال حريق)، ربما كان هناك انفجار قادم في أسواق رأس المال نتيجة الضغط الهائل الذي سببته الحرب التجارية لهذه الإدارة".
أما كبيرة مستشاري الاستثمار في إدارة الثروات ببنك "بي إن باريبا" في هونغ كونغ غريس تام فترى في تصريحات لصحيفة "فايننشال تايمز" أن "السوق الآن قلقة في شأن قيام الصين ودول أخرى بالتخلص من سندات الخزانة الأميركية كوسيلة انتقامية (رداً على عقوبات الإدارة الأميركية بفرض التعريفة الجمركية).
وهكذا يرتفع العائد أكثر على سندات الدين الأميركي، نتوقع في المدى القصير أن تظل سوق السندات في وضع مضطرب نتيجة عدم وضوح الرؤية في شأن فرض التعريفة الجمركية أو المفاوضات التجارية أو ردود الفعل الانتقامية".
وكتب وزير الخزانة الأميركي السابق لورانس سمرز على حسابه في موقع "إكس" (تويتر سابقاً) عن عمليات البيع الكثيفة للسندات يقول إن "هذا النمط غير المعتاد يعني خروجاً من الأصول الأميركية في الأسواق المالية العالمية، فإن أسواق المال العالمية تعاملنا الآن كأننا سوق صاعدة مسببة للمشكلات".
إصرار أميركي واضح
هذا الاضطراب في سوق السندات الذي وصل إلى حد يتوقع فيه المتعاملون والمحللون احتمال تدخل البنك المركزي لم يؤثر في إصرار الإدارة الأميركية على نهجها لتصعيد الحرب التجارية.
وفي مقابلة مع "فوكس بزنس" قال وزير الخزانة الأميركي سكوت باسينت إن موجة البيع في سوق السندات ليست قابلة للاستمرار، في نفي مستتر لأن لها علاقة بفرض التعريفة الجمركية.
وأضاف "أعتقد أنه لا يوجد أسباب جوهرية وراء ذلك، إنه أمر غير مريح لكنه تصحيح عادي".
وحين سئل عما إذا كان هناك تفكير في شطب الشركات الصينية من مؤشرات البورصة الأميركية رد باسينت بأن "كل الخيارات مطروحة"، لكنه أكد أن مثل هذا القرار يعود إلى الرئيس ترمب.
هذا التجاهل من مسؤولي فريق ترمب الاقتصادي لاضطراب السوق ربما يكون مفهوماً بالنسبة إلى أسواق الأسهم، أما بالنسبة إلى أسواق السندات فالمسألة في غاية الخطر إذا لم يحدث تدخل لتهدئة السوق، فهناك فقاعة دين عالمي بالفعل مرشحة للانفجار في أية لحظة.
وبحسب آخر أرقام موثقة من معهد التمويل الدولي، بنهاية مايو (أيار) 2024 وصل إجمال الدين العالمي إلى 315 تريليون دولار، وهو ما وصفه تقرير للمعهد وقتها بأنها "أكبر وأسرع زيادة في حجم الدين العالمي وأوسعها نطاقاً منذ الحرب العالمية الثانية".
من بين إجمال الدين العالمي، وصل الدين العام الحكومي (الخارجي والمحلي) إلى 91.4 تريليون دولار، بينما كانت ديون الشركات والأعمال عند 164.5 تريليون دولار، وشكلت ديون القطاع المالي وحده منها 70.4 تريليون دولار.
أما الديون الشخصية للمستهلكين، مثل قروض الرهن العقاري وديون بطاقات الائتمان وديون الطلاب وقروض السيارات وغيرها فكانت عند 59.1 تريليون دولار.
وعلى مدى نحو عام الآن زاد حجم ذلك الدين بتريليونات إضافية، ليزيد الدين العام على 100 تريليون دولار وإجمال الدين العالمي يقارب نحو 400 تريليون دولار.
ومع استبعاد تدخل "الفيدرالي" بخفض طارئ لسعر الفائدة أو شراء السندات بكثافة لإعادة التوازن للسوق فإن استمرار اضطراب سوق السندات سيجعل مستثمرين أكثر يخرجون منه وتزيد عمليات البيع وارتفاع معدلات العائد، وقد تكون تلك شرارة انفجار فقاعة الدين بأزمة مالية عالمية تفوق ما سبقها شدة ونطاقاً.