من المفارقات أن العلاقات السعودية- الصربية التي هي أقرب في ما مضى إلى التوتر بسبب "حرب البوسنة" 1992، صارت الآن أكثر ازدهاراً من علاقات دولية عدة، بفضل لاعبي كرة القدم الصرب في النوادي السعودية الذين لفت سفير بلادهم في الرياض دراجان بيزينيتش إلى أنهم سفراء للسعودية في بلغراد، التي لا تزال من دون سفير مقيم.
وقال في حديث مع "اندبندنت عربية" على هامش مؤتمر القدرات البشرية "تغيرت صورة السعودية في صربيا كثيراً بفضل الرياضة، ولاعبي كرة القدم الصرب الذين يلعبون هنا في أندية سعودية كبرى، فلدينا الآن لاعبان اثنان هما ميتروفيتش وسافيتش في الهلال، وفي الاتحاد المتصدر لدينا حارس المرمى رايكوفيتش، وفي الرياض لدينا حارس المرمى أيضاً بوريان".
وكانت السعودية دعمت بمجهود إغاثي ودبلوماسي واسع البوسنة على حساب الصرب في الحرب الأهلية التي نشبت بين الطرفين في التسعينيات وشهدت فظائع كبيرة، دفعت المجتمع الدولي إلى التدخل لتأمين البوسنة، التي كانت هي والصرب جزءاً من دولة يوغسلافيا السابقة قبل تفكك الاتحاد السوفياتي.
سفير صربيا لدى السعودية، دراجان بيزينيتش، في حوار مع "اندبندنت عربية": "أعتقد أن السلام بين روسيا وأوكرانيا سيتحقق في السعودية، ونحن سنكون ممتنين لها، مثلما ينبغي أن تكون أوروبا والعالم كله ممتناً"#نكمن_في_التفاصيل pic.twitter.com/ydBin4n8nn
— Independent عربية (@IndyArabia) April 14, 2025
وفيما ألقت تلك المرحلة بظلالها على علاقات صربيا والعديد من بلدان منظمة التعاون الإسلامي، استأنفت بلغراد إصلاح تلك العلاقة عبر تعيين أول سفير لها في الرياض 2018 أعقبه توسيع التبادل التجاري بين البلدين في ذلك العام نحو 365 مليون دولار، إلا أن تحسن العلاقة على المستوى الشعبي كان العامل المؤثر فيه أكثر لاعبو كرة القدم الصرب الذين يقضي مواطنوهم ساعات طوالاً في مشاهدتهم، كما لو أن البلاد ذات السبعة ملايين نسمة يعيش معظمهم في السعودية، وفقاً لتقدير بيزينيتش في حديثه الجانبي معنا.
ويقول "كما تعلمون، لا شيء في الرياضة يجذب الناس مثل كرة القدم، التي تحظى بشعبية هائلة داخل صربيا. واليوم، دوري المحترفين السعودي يعد من أبرز البطولات التي تتابَع في صربيا، إلى جانب بطولات إنجلترا وإيطاليا وألمانيا. إذاً من خلال الرياضة وكرة القدم، تغيرت نظرة وصورة شرائح واسعة من الشعب الصربي تجاه السعودية، ويتزايد الاهتمام بالتطورات في السعودية".
ما يحدث في السعودية يؤثر في العالم
ورأى أن الاهتمام بدأ بكرة القدم لكنه تجاوزها إلى آفاق أخرى، مضيفاً "لدينا الآن كثير من الأخبار عن السعودية في جميع المجالات، كما تعلمون، ليس فقط في كرة القدم".
جاء ذلك في سياق حديثه عن ما يعتبره "امتيازاً كبيراً لخدمة بلادي في السعودية، وبخاصة خلال هذا الوقت بالذات. فالسعودية أصبحت اليوم من المراكز العالمية الكبرى وعلى الساحة الدولية، وما يحدث داخلها يؤثر في العالم بأسره من جوانب متعددة".
ويقر بأن "تغيُّر الأوضاع والظروف الدولية بهذه الصورة الكبيرة جعل من وجود دولة مثل السعودية ضرورة لهذا العالم، بل إن لم تكن موجودة لكان يجب اختراعها"، إذ شكلت بحسبه وثيقة "رؤية 2030" أرضية لتحول شامل للدولة والمجتمع.
ويعتقد أن أمرين جعلا العالم ينظر إلى السعودية بأهمية كبيرة بعد إعادة تفعيلها "أولاً، موقعها كمركز للعالم الإسلامي الذي يشكل نصف سكان العالم (هم في الواقع أقل)، بالتالي ما يجري في السعودية له أثر فكري وأيديولوجي على نصف سكان الكرة الأرضية. وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها".
أما الثاني من منظور الدبلوماسي الصربي الذي كان شاهداً على تأثير الرياض عن قرب في ملفات كانت بلاده طرفاً فيها؛ فهو الطاقة، بوصفها "مركز إنتاج الطاقة في العالم. وكلنا نلاحظ الآن الأهمية المتزايدة للموارد الطبيعية والمعادن النادرة. كنا نعتقد في السابق أن الموارد لم تعد ذات أهمية، لكن تبين الآن عكس ذلك. والسعودية أدركت أن الاعتماد على النفط وحده ليس سياسة صحيحة، وأنه من الضروري تنويع مصادر الاقتصاد وبناء مجتمع قائم على هذا التنويع، وهو ما وفرته "رؤية 2030".
لم يتوقع عدد من المهتمين بالطاقة المتجددة في أعقاب تطور خطاب تغير المناخ أن تحتل الرياض موقعاً مؤثراً في هذا الحقل من الطاقة، قبل أن تفاجئهم بمخزوناتها في هذا الصدد، وطموح استثمارها محلياً، توج أخيراً بإعلان اتفاق بين واشنطن والرياض على تأسيس برنامج نووي للأغراض السلمية.
ويشير السفير في هذا السياق إلى أن الطاقة التي استوقفته في السعودية ليست في معناها التقليدي الذي يعنى به النفط وبقية المنتجات، وإنما في معناها الاصطلاحي الذي وجده يبرز في حيوية البلاد، قائلاً "أنا في السعودية منذ أربعة أشهر فحسب، وخلال هذه الفترة القصيرة شهدت عدداً هائلاً من المؤتمرات والمنتديات التي ناقشت آخر التطورات في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كافة. ولا أعتقد أن هناك مكاناً في العالم يشهد مثل هذا الزخم من النشاط، الذي يعكس اهتمام البلاد بكل الابتكارات. وبذلت القيادة السعودية، جهوداً جبارة في صياغة هذه السياسة".
"مواجهة أوروبا مع روسيا لم تكن ضرورية"
ولذلك يرى أن نتيجة ذلك، باتت في "ثقة متنامية بالسعودية في العالم، وأصبحت أكثر القضايا إلحاحاً داخل أوروبا والعالم تُناقش وتُحل على أرض السعودية، مثل المحادثات بين الولايات المتحدة وروسيا حول أوكرانيا، والمفاوضات حول إيران، إذ تلعب السعودية دوراً داعماً ومهماً".
ومن موقعه الدبلوماسي يكشف أن الرياض أظهرت في المفاوضات التي تابعت بلغراد (عاصمة صربيا) تفاصيلها بين الروس والأميركيين والأوكرانيين "مرونة دبلوماسية فائقة، كون الغرض من ذلك خدمة الهدف الأسمى في خفض التوتر والنزاع في العالم. هذه المواجهة بين أوروبا وروسيا غير ضرورية".
وأضاف "نأمل في أن تحل الحرب في أوكرانيا في أقرب وقت، لأن السلام هو المجال الوحيد الذي يتيح قيام علاقات بين الدول. وصربيا تتأثر بصورة مباشرة، فنحن الدولة الوحيدة [داخل أوروبا] التي لم تفرض عقوبات على روسيا، ولو فعلنا لكنا فقدنا كامل إمدادات الطاقة. لذلك أعتقد أن السلام بين روسيا وأوكرانيا سيتحقق هنا في السعودية، ونحن سنكون ممتنين لها، مثلما ينبغي أن تكون أوروبا والعالم كله ممتناً".
وهل لا تزال لدى الأوروبيين مخاوف من الوساطة السعودية من دون إشراكهم؟ تابع "كما تعلمون، يتزايد الاهتمام بالتنمية والتطورات التي تشهدها السعودية في دول مثل صربيا، وأنا متأكد أن الحال كذلك في جميع دول البلقان الأخرى. إن السعودية مهمة للتنمية الأوروبية بالتأكيد، لأنها قوة اقتصادية هائلة وتطور عدة أنواع جديدة من المنتجات والصناعات، في الوقت نفسه الذي تتصاعد خلاله الخلافات التجارية بين أوروبا والولايات المتحدة، موقف السعودية مغاير تماماً".
وفي هذا الصدد رأى أنه بحكم وقوع الرياض ضمن أولويات الرئيس الأميركي ترمب الذي أظهر ذلك مراراً ضمن تصريحاته ومشاركته في فعاليات صندوق الاستثمارات العامة، وتصريحاته بأن السعودية قد تكون أول دولة يزورها خارجياً، "فإن السعودية لها تأثير في الرئيس، ويمكن لها أن تلعب دور الوسيط بين بروكسل وواشنطن، بخاصة أن علاقاتها مع أوروبا ممتازة، وزارها الرئيسان الفرنسي والألماني ورئيس وزراء بريطانيا، وغيرهم، فهي تتمتع بدبلوماسية فعالة وهادئة، وهذا الأمر يمكن أن يلعب دوراً مهماً".