Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لبنان يشرع أبوابه لـ"الزراعة الذكية"

تسهم التقنيات الحديثة في حماية السلالات النباتية النادرة

تعد "الزراعة الذكية" خطوة نحو بلوغ الأمن الغذائي في لبنان (اندبندنت عربية)

ملخص

تشكل "الزراعة الذكية" فرصة لإحياء القطاع الزراعي في لبنان، معتمداً على شغف مجموعة من الباحثين والمزارعين المهتمين، وينغمس هؤلاء أكثر فأكثر في عالم التكنولوجيا. وتمتاز جهودهم باللجوء إلى التقنيات الحديثة لتطوير أدوات الإنتاج، وتخصيب البذور، وصولاً إلى الحفاظ على السلالات النادرة.

منذ عام انتقل المهندس الزراعي عبدالحميد كنج إلى عالم "الزراعة الذكية"، وأسس مشتلاً مائياً في بلدة بيت زود – الضنية (شمال)، معلناً ثقته بما يتيحه العلم والتطور التكنولوجي من إمكانات. للوهلة الأولى، وجد أن أخطاراً كبيرة تحف مغامرته هذه في بيئة اعتادت على النمط الزراعي التقليدي، ولكن أغرته وفرة المحصول، وسهولة الوصول إلى المعلومات، وغنى الحلول التي تقدمها أدوات "الذكاء الاصطناعي". فقد بات ممكناً زراعة أنواع من النباتات النادرة، وتلك التي تحتاج إلى ظروف مناخية مختلفة، كما أصبحت لديه القدرة على التحكم بالعوامل المحيطة، كإعادة تدوير المياه، وقياس درجة ملوحة التربة، والتحكم بحرارة الحاضنات، وتحسين جودة ونوعية البذور.

 

لفت كنج إلى فوائد كبيرة تجنيها الزراعة من استخدام التكنولوجيا، إذ بدأ الزراعة الأفقية والزراعة المائية، التي تساعد على التعامل مع كميات كبيرة من الشتول في مساحات ضئيلة وضيقة، كما أن المزارع يتمكن من جني ثمار بجودة أكبر مما كانت عليه في السابق، ولاحظ تراجع الأمراض التي تصيب المزروعات. وقد اعتمد كنج على عدد كبير من التطبيقات التي تقوم بتحليل الصور، وتحديد الأمراض والمشكلات التي تصيب النبتة وطبيعتها الفيروسية أو الحشرية، وتقترح الحلول الممكنة وآليات العلاج.

التطبيقات تنافس المهندس

اعترف كنج أن "التطبيقات باتت تشكل تحدياً وربما تهديداً للمهندس الزراعي"، إلا أنها، في المقابل، تسهم في تطوير كفاياته وجعله على اتصال مباشر مع التطور العلمي الهائل، داعياً إلى اعتماد الأساليب الجديدة لأنها "تقلل الكلفة إلى أقصى حد ممكن، فهي تغني عن التخمين بفضل الأجهزة التي تقيس خصائص التربة وما يعتريها من نقص"، كما تغني عن دفع ثمن الأسمدة والمبيدات التي لا حاجة إليها، وأسف أن بعض المزارعين ليس على معرفة بهذا النوع من الزراعات، من هنا، تؤدي بعض الطرق التقليدية التخمينية إلى تخريب التربة، وزيادة ملوحتها. وأشار كنج إلى زيادة كبيرة في الإنتاج "ففي المساحة المحدودة عينها التي تشكل المشتل، التي كان يزرع فيها 1000 شتلة، بات اليوم قادراً، من خلال تقنية الزراعة الأفقية، على زراعة أكثر من 8 آلاف شتلة، علماً أنها لا تحتاج إلى أي جهد إضافي نظراً إلى اتباع الطرق الحديثة الممكنة، والتي تقتصر على المراقبة الدورية والمستمرة من دون أي تدخل بشري حقيقي".

 

في خدمة السلالات النادرة

تسهم التقنيات الحديثة في حماية السلالات النباتية النادرة في لبنان. وهو ما تؤكده إحدى التجارب الملهمة في عكار (شمال)، حيث تمكن باحثون في الحفاظ على سلالات "الأوركيد" النادرة. بدأت مهمة توثيق "الأوركيد" عام 2016، واكتشاف الأنواع التي تعيش في مناطق محدودة. وتحدث المهندس الزراعي علي طالب عن "رسالة حماية سلامة البيئة والطبيعة في لبنان"، فهي مؤشر إلى وجود دورة حياة كاملة من سلسلة نباتات مختلفة، ومقياس لدرجة تلوث المنطقة التي تنمو فيها، حيث لا تنمو "الأوركيد" إلا في المناطق السليمة والمتعافية. ويوماً بعد يوم، أصبحت "الأوركيد" "الشغل الشاغل" للشاب علي الذي وثق، في البداية، وجود 16 نوعاً، لكنه مع التعمق البحثي راح يكتشف أنواعاً وسلالات إضافية، ليصل إلى نحو 70 نوعاً من "الأوركيد" المختلفة. حمله شغفه إلى مفاجآت كبيرة في الميدان، وبرزت محاولات لتكثيف عملية الإنبات والتكاثر بعد مراحل طويلة من المراقبة وجمع البذور، ونقلها إلى المختبر وإجراء البحوث العلمية، وإقامة بنك للبذور لاستدراك أي كارثة طبيعية أو تعد بشري.

وقال طالب "في الطبيعة لا تتجاوز فرصة الإنبات واحداً في المئة للبذور لأنها دقيقة الحجم، وأشبه بالغبار، وتأتي الاستحالة من أن انتشارها قد يأتي في مناطق جافة أو غير ملائمة للعيش بسبب غياب الفطريات المساعدة"، من هنا جاءت ضرورة الحفاظ على "الأوركيد" النادر، وجاء تأسيس "مختبر درب عكار للدراسات البيئية"، الذي يضم قسم "الزراعة النسيجية"، وهو محاولة لتنمية السلالات المهددة بالانقراض وتأمين الظروف المناسبة بسبب عدم توافر فرص الحياة في حال اللجوء إلى الطرق التقليدية.

حققت محاولات علي طالب نجاحات باهرة، فهي المرة الأولى التي "تنجح محاولات زراعة الأوركيد في لبنان والشرق الأوسط ضمن المختبر، وقد وصلت نسب النجاح في الإنبات لبعض السلالات إلى 90 في المئة"، مما شجعه على افتتاح أقسام جديدة تتعلق بالنباتات المختلفة لمحافظة عكار، وقسم آخر يرتبط بالحشرات، وهو في طور تأسيس المتحف الطبيعي لمحافظة عكار التي تتمتع بتنوع بيئي وطبيعي فريد على مستوى شرق المتوسط، حيث تتدخل الفرق البحثية لإنبات أي سلالة مهددة بالانقراض، التي تتنوع من "الأوركيد" إلى السوسن، والتوليب، والفريتيلاريا، وغيرها من الأشجار كالسنديان والرز والشوح.

وتبدأ مسيرة حياة تلك السلالات في المختبر، قبل نقلها إلى المشتل، وبعد أن تكمل مرحلة النمو، تصبح جاهزة للعودة إلى الطبيعة الأم. وعبر علي طالب عن حزنه لفقدان عدد كبير من الشتول خلال فصل الشتاء بسبب العواصف الهوجاء، والتهدم الجزئي للمشتل، إلا أن الفرق عادت ولجأت إلى بنك البذور ضمن المختبر لتطلق عملية إنماء الشتول من جديد، وتغذية الموائل الطبيعية بالسلالات النادرة. وفرح طالب بسبب القدرة على إنقاذ تلك السلالات الموجودة على "القائمة الحمراء" المهددة في الانقراض بفضل الشغف الشخصي للباحثين، ودور التطور العلمي والتكنولوجي في الوصول إلى بروتوكول جديد لإنبات "الأوركيد" والسوسن والنباتات النادرة.

 

دعم وزارة الزراعة

دفعت النجاحات المتكررة لسبل الزراعة الحديثة إلى تبنيها، عبر المؤسسات الرسمية، لا سيما وزارة الزراعة. وقد رحب وزير الزراعة اللبناني نزار هاني عبر "اندبندنت عربية" باتباع طرق "الزراعة الذكية" لأنها الحل الوحيد لمواجهة التغيرات المناخية، وانتقال القطاع إلى المستوى المتطور والمتقدم. وشدد على أن مشروع "غايت"، بالتعاون مع البنك الدولي، يهدف إلى تطوير الزراعة اللبنانية، وجعلها أكثر ذكاء، ومتكيفة مع التغيرات المختلفة من قلة الأمطار والاحترار، وصولاً إلى حسن وترشيد استخدام المياه، وزراعة سلالات متكيفة مع التغيرات المناخية، وخير دليل هو القمح اللبناني الحالي القادر على النمو في بيئة جافة من دون حاجة إلى كميات كبيرة من المياه.

في الأول من يوليو (تموز) 2025، أقر مجلس النواب اللبناني اتفاقية قرض ميسر بين الجمهورية اللبنانية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير بقيمة 200 مليون دولار أميركي، لتمويل مشروع "غايت" الساعي إلى التحول الأخضر في قطاع الأغذية الزراعية من أجل التعافي الاقتصادي. وبحسب بيان لوزارة الزراعة يأتي المشروع ضمن الرؤية الاستراتيجية للنهوض بالقطاع الزراعي، وتعزيز صمود الريف اللبناني، وتمكين المزارعين والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة.

من جهة أخرى رحب وزير الزراعة اللبناني باعتماد الزراعات المعتمدة على مياه الأمطار، وتلك التي تكتفي بكميات قليلة من الماء، متمسكاً بضرورة "إعادة النظر بالخريطة الزراعية في لبنان"، وكشف هاني عن تطوير الوزارة استراتيجية عشرية للزراعة في لبنان، تبدأ عام 2026، وتتضمن توجيهاً للمزارعين بزراعة أنواع معينة وملائمة للظروف المستجدة في مختلف المناطق بدءاً بدراسات ومعطيات علمية، واستخدام التقنيات الحديثة، وصولاً إلى الدمج بين التقنيات التقليدية المتوارثة والتكنولوجيا المتطورة. ولفت وزير الزراعة إلى أن "من واجب لبنان التركيز على الزراعات ذات الميزات التفاضلية، على غرار الزيتون والعسل، والاستفادة من النجاحات التي تحققت في زراعة الأفوكادو والفاكهة الاستوائية في السواحل"، مؤكداً أهمية الزراعة في الحفاظ على المزارع المتجذر في أرضه، وتدريبه وتطوير قدراته لمواكبة الحداثة الزراعية.

وتشهد الزراعة نهضة وتجديد مختلف اللجان القطاعية المتعلقة بإنتاج زيت الزيتون، والعسل، والأسمدة، وتأسيس اللجنة الوطنية للمياه وتطوير إدارة المياه واستخدامها، بصورة رشيدة، لمواكبة التغيرات المتوقعة إذ سيتعرض لبنان لدورة التغيرات المناخية من الآن ولغاية عام 2050.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مبادرات القطاع الخاص

كما دخل القطاع الخاص على خط دعم "الزراعة الذكية"، وأطلقت غرفة التجارة والصناعة والزراعة في الشمال مشروع 360 Agro -Agri لتنمية القطاع الزراعي، وأشاد رئيس الغرفة توفيق دبوسي بالدور المحوري الذي تلعبه التكنولوجيا في تطوير الزراعة، إذ لا يمكن التغاضي عنها، داعياً إلى أن يكون لبنان مثل هولندا التي تعتمد في القسم الأكبر من اقتصادها على الزراعة الذكية المعتمدة على التقنيات الحديثة.

تسهم مختبرات الغرفة في طرابلس (شمال) المعتمدة دولياً، إلى حد كبير، في مساعدة المزارعين والتجار على تحسين جودة منتجاتهم، وهو أمر ليس بطارئ. وتقوم تلك الأجهزة بدراسة التربة، وتقدم، حتى الآن، 30 صاحب مؤسسة طلبات لدارسة أراضيهم وخصائصها ومساحتها، تمهيداً للاجتماع معهم ومناقشة السبل الرشيدة لتطوير زراعتهم، وحضهم على زراعات محددة منافسة، إضافة إلى جهود مركز أبحاث الصناعات الزراعية التي تسهم في تطوير الزراعات والإنتاج، ومن ثم لا بد من الاستفادة من مختلف المقدرات المتاحة لأن "لبنان يمتلك تنوعاً تضاريسياً، كما أنه لا يمكن الاستغناء عن قطاع حيوي في الاقتصاد" بحسب دبوسي الذي تطرق إلى فكرة "المولدات المتنقلة" لمساعدة المزارعين وتزويدهم بالطاقة لتشغيل المنشآت، أو حتى الاتفاق مع شركات عالمية لتصدير بعض المزروعات الجيدة. عن أمله بتجاوب المزارعين مع رؤية الغرفة، لأن "فريق الخبراء يقدم لهم الخدمة من دون مقابل، ولا بد من الإيمان بأنه قادر على الانتقال بهم من النمط التقليدي إلى الزراعة الذكية والإنتاج الوفير"، معولاً على "رغبة فريق عمل المختبرات على تطوير خبراتهم وكفاءتهم من خلال اختصاصات علمية جديدة في مجال الهندسة الزراعية".

بنوك ذكية

عالمياً يبرز الاهتمام ببنوك البذور على نطاق واسع، وهو ما بدأت مؤسسات في لبنان اعتماده. وأشار الباحث المتخصص طلال درويش إلى أنه في لبنان، تهتم مؤسسة الأبحاث الزراعية في المسألة، إضافة إلى جهود مؤسسات أخرى. وتمكنت الأبحاث في لبنان من تطوير بذور القمح وجعلها متأقلمة مع المناخ والتربة والبيئة، وتوزيعها على المزارعين لبدء الإنتاج، والبذور العلفية والبقوليات، لافتاً إلى اتجاه لتشجيع زراعة القمح القاسي المستخدم في صناعة المعكرونة والبرغل. ورأى درويش أن "ثمة حاجة إلى تأصيل بذور البطاطا لوقف استيرادها من فرنسا وهولندا، إذ ينفق لبنان ما يزيد على 12 مليون دولار أميركي لشرائها"، منبهاً من أن البذور المستوردة لزراعة الخضراوات وإنتاجها عقيمة إذ لا تنبت مجدداً، بالتالي "تلزم المختبرات الأجنبية المزارع بإعادة شراء البذور في كل عام ومن جديد".

اقرأ المزيد

المزيد من بيئة