أشعرني حديث الدكتور عبدالكريم الإرياني معي بالهاتف الى جنيف (عبر بتفاؤله بأن الأمور تقترب من نهايتها وان اتفاقا قد تم بأن التوقيع سيتم خلال 48 ساعة، وكان حريصا – كما ذكرت سابقا – على حضور الدكتور ياسين الذي كان قد أشيع أنه لن يشارك في مراسم التوقيع.. وفورا بعثت برسالة إلى الدكتور ياسين ورجوته الحضور حتى نقترب من انتهاء الأزمة ثم اتصلت به، ثم تلقيت منه رسالة نصها (والله يا عزيزي إنني كنت أشعر بالقرف لولا اتصالك وتقدير الموقف).
في ظل التجاذبات واعتقاد كل طرف بأن الوقت يعمل لصالحه، كانت الانقسامات تزداد عمقا داخل المجتمع ومستوى الخطاب السياسي ينخفض بسرعات عالية ودون كوابح، وبالتوازي مع ذلك كان الإقليم والعالم يرتفع قلقه من تمكن الجماعات الجهادية وخصوصا تنظيم القاعدة من استغلال حالة الفوضى العارمة والشلل الإداري الذي أصاب العاصمة التي انشغل فيها السياسيون بالصراعات حول السلطة متجاهلين انهيار الأوضاع الاقتصادية والخوف لدى رجال الأعمال اليمنيين بعودة الهدوء إلى البلاد.
أنجز اللقاء المشترك التوقيع حسب الاتفاق في منزل الأستاذ باسندوة على أن يوقع المؤتمر الشعبي والأحزاب المتحالفة معه في اليوم التالي وهو ما حدث بالفعل، لكن المفاجأة كانت أن الرئيس صالح دفع بشرط جديد وهو أنه لن يوقع إلا بحضور قادة اللقاء المشترك الى القصر الجمهوري ففي صباح 21 مايو (أيار) 2011 صدر بيان من اجتماع للجنة العامة للمؤتمر الشعبي برئاسة صالح أصر على (ضرورة أن تجرى مراسم التوقيع على اتفاقية المبادرة في القاعة الكبرى بالقصر الجمهوري وبحضور كافة الأطراف السياسية المعنية بالتوقيع المؤتمر الشعبي العام وحلفاؤه أحزاب التحالف الوطني الديمقراطي، وأحزاب اللقاء المشترك وشركاؤه).،واعتبر البيان ان هذا (يجسد الحكمة اليمانية والحرص على تجنيب الوطن الفتنة وإراقة الدماء).
في مساء ذلك اليوم (21 مايو 2011) وخلال عشاء جمعني في جنيف بوزير الصحة السابق الصديق الدكتور عبدالكريم راصع الذي كان يحضر اجتماعات منظمة الصحة العالمية بدعوة من مندوب اليمن لدى المقر الأوربي للأمم المتحدة الدكتور إبراهيم العدوفي، وبحضور الدبلوماسي اليمني عبدالوهاب ملهي، تلقيت اتصالا من الدكتور علي مجور الذي كان رئيسا للحكومة حينها يشكرني على جهودي في المساهمة لإيجاد حل للمأزق وطلب مني ان أواصل المساعي لإقناع الدكتور ياسين بالحضور مع قادة المشترك الى القصر الجمهوري للتوقيع بحضور الرئيس وقال (انه مسعى سيجنب البلد حربا).. قلت للدكتور مجور ان الأمر صعب لتأخر الوقت في صنعاء لكنه ألح علي بالمحاولة، ولم أجد أمامي الا القبول.
اتصلت بالدكتور ياسين الذي لم يبد اعتراضا بعد الحاحي عليه بأن الأمر ليس الا شكليات يمكن تجاوزها، لكنه قال ان علي التواصل مع الأستاذ باسندوة لإقناعه، وفورا اتصلت به.. لكنه رفض تماما وقال ان الاتفاق كان ان يوقع كل طرف لوحده... ولم أعاود الاتصال بالدكتور مجور لأني قدرت أن لا جدوى منه.
كان الرئيس صالح يصف المبادرة الخليجية بأنها مؤامرة ضد اليمن رغم إعلانه انه يقبل بها كمخرج للأزمة، وكانت الأيام الأخيرة عصيبة للغاية وبلغت ذروتها بقيام بعض العناصر التابعة للمؤتمر الشعبي بمحاصرة الأمين العام لمجلس التعاون عبداللطيف الزياني في سفارة دولة الإمارات، ويقول الكثيرون ان الذي أدارها هم بعض أقارب صالح في محاولة منهم لتعطيل التوقيع ظنا منهم بقدرتهم على حسم الأمر عسكريا.
رغم كل تلك العواصف التي كان يمكن أن تعيد البلد الى مسار حرب أهلية مدمرة، الا ان المؤتمر الشعبي العام وحلفاءه وقعوا عليها بحضور صالح الذي رفض ان يضع توقيعه عليها مصرا على حضور قادة اللقاء المشترك وحلفائهم، وهكذا صارت المبادرة وكل الجهود التي بدلت للتوصل اليها في مهب الريح... وفي مساء تلك اللية بعث لي الدكتور الإرياني برسالة قال فيها (عزيزي مصطفى. ابذل قصارى جهدك ان يقبلوا – يقصد اللقاء المشرك – الحضور الى القصر الجمهوري.. أنا أعمل على ذلك عبر علي محسن، صدق او لا تصدق..). ولم يكن الدكتور الإرياني خصماً لصالح، لكنه كان يدرك بحدس صاحب التجربة الطويلة أن الحكم قد بلغ مداه وان تغييرا صار واجب الحدوث وان على الجميع السعي لحدوثة بطريقة سلمية تجنبا لوقوع الأسوأ.
استمرت الوساطات القبلية التي شارك فيها عدد من المسؤولين والشخصيات الاجتماعية لإعادة العملية السياسية الى مسار الحوار، وخلال اجتماع عقدوه في 24 مايو بمنزل الشيخ صادق الأحمر فوجئ الحاضرون بالقذائف تطلق على منزله في منطقة "الحصبة" من موقع قريب من وزارة الداخلية القريبة منه ما أدى الى مقتل وجرح عدد من الحاضرين واصابت المنزل بدمار ظاهر... كان ذلك العمل إيذانا بدخول الحوار السياسي في خط المواجهة العسكرية، والذي كان قد بدأ تدريجيا بالسيطرة على مقر اللجنة الدائمة للمؤتمر الشعبي في "الحصبة" والقريب من منزل الشيخ الأحمر، وتم خلالها تدمير مبنى الخطوط اليمنية المطل على المنزل مباشرة.
تزايدت الضغوط الخارجية على الرئيس صالح وكانت الولايات المتحدة قد حسمت أمرها بأن عهده لابد أن ينتهي واتهمت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون صالح مباشرة بأنه (يتنصل من التزاماته ويزدري تطلعات شعبه المشروعة وانه الطرف الوحيد الذي يرفض قبول المبادرة)، وحضته على تنفيذ التزاماته "فورا" ونقل السلطة سلمياً بطريقة منظمة.
في ظل مساحة الشكوك التي لم يتمكن أحد من ردمها جاءت الأخبار المأساوية من تعز في 29 مايو 2011 عن حدوث محرقة مع حلول الظلام في "ساحة الحرية" راح ضحيتها العشرات من الضحايا وكان بعضهم يعاني من إعاقات جسدية، وتراشق الجميع الاتهامات حول أسبابها والطرف الذي بدأ المعركة.. اتصلت بالدكتور الإرياني بعد ان بلغتني بعض التفاصيل فأكد الحادثة وقال انه في غاية الحزن، وانه اخبر صالح غضبه الشديد وناشده وضع حد للأزمة قبل إراقة المزيد من الدماء وتنامي الأحقاد، وقال له (اذا ما أراد الله إهلاك نملة حباها جناحي طائر فتطير).
في الفترة التي تلت محرقة تعز قطع الدكتور الإرياني اتصالاته مع صالح، ولزم منزله لأنه بحسب رسالة بعثها لي (صار الرجل محاصرا وغير قادر على تجاوز دائرته العائلية الضيقة وعدد من مشعلي النيران والنافخين فيها كي تستمر).. لكن حادثة "مسجد دار الرئاسة" في 3 يونيو 2011 اثناء صلاة الجمعة غيرت المشهد كاملا، فقد وقع انفجار مهول دمر أجزاء كبيرة من المبنى وراح ضحيته العشرات وأصيب فيه الرئيس بجراح خطيرة ومعه الراحل الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني رئيس مجلس الشوري ورئيس الوزراء الدكتور على مجور والشيخ صادق أمين أبو رأس وعدد اخر من المسؤولين.
للحكاية بقية.