في ظل الحراك الشعبي والمطلبي الذي يعيشه لبنان منذ ستة أيام، لم ترق الحركة الفنية فيه إلى المستوى المطلوب، مقتصرة على بعض الجُمل البالية والكلاشيه من فنانات وفنانين باحثين عن شهرة زائفة، في حين لم يرتق خطاب الفنان اللبناني عموماً إلى مستوى الحدث.
ركوب الموجة
كثر ممّن شاركوا في التظاهرات، حاولوا ركوب موجة الحراك المطلبي، ومنهم من رأى فرصة إضافية لتجديد شعبيته عبر التواجد في الشارع، متناسين أن الفن شريك أساسي في أي حراك مطلبي أو شعبي، والحركة الفنية جزء مهم من التظاهر ضد الفساد والظلم.
وفي جولة سريعة على ما قاله فنانون ومغنون، يتضح وببساطة، أن الجمل مستنسخة عما يطلبه المحتجون، لا بل في بعض المرات هي دون المستوى المطلوب، وهنا لا بد من لوم الفنانين الملتزمين الذين لم يشاركوا حتى الآن بالتحرك، باستثناء المبادرة الخجولة التي قام بها مرسيل خليفة في طرابلس.
والأخير يعتبر من رواد الأغنية الملتزمة في لبنان والعالم العربي، لكنه مبتعد منذ فترة عن همّ الناس، ولا يغني وجعهم كما فعل في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، ويمشي اليوم صوب التأليف الموسيقي.
مشاهير التواصل
ولا يتوقف الأمر عند الفنانين، إذ إن غالبية المشاهير على مواقع التواصل الاجتماعي، نزلوا إلى ساحات الاعتصام، وتظاهروا، لكن بخجل، ووقاحة أمام كاميرات هواتفهم، لتحميل الفيديوات على "انستغرام" مثلاً، والقول إنهم في الساحات وعلى من يتواجد في منزله الحضور حالاً.
مظاهر كاذبة وخادعة من بعض المؤثرين على مواقع التواصل والفاشينيستا، طمعاً بزيادة عدد المتابعين أو نسبة الإعجاب بالصور. ومن أبرز الأمثلة على ما يحصل، توجه راقصة شرقية (لن نذكر اسمها طبعاً كي لا نمنحها ما تريد من شهرة) إلى ساحة الشهداء للرقص أمام جامع محمد الأمين، وفي بحث عبر شبكة الإنترنت، ندرك أن هذه الراقصة غير موجودة على الخريطة الفنية، وما كانت تبحث عنه الشهرة فقط والانتشار. لكن بعض المتظاهرات كن واعيات لذلك، فطردت مع من أحضرها من الساحة.
وأثار تصرف الراقصة نقاشاً على مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض. ولا بد هنا من ذكر بعض المشاركين الايجابيين في التظاهرات كزياد الأحمدية ووائل جسار.
التجربة المصرية
ويبقى المثال الأبرز على ما يحصل في لبنان، ما حصل في مصر، حين حاول الإخوان المسلمون سرقة الثورة من الشعب. إذ انطلقت الشرارة وهم نائمون، إلى أن أدركوا أن "قطار المجد" يفوتهم، فنزلوا إلى الساحات متأخرين.
عكف الإخوان في الأيام الأولى من ثورة يناير على تحويل أي مناقشات دستورية أو سياسية إلى صراعات دينية، ما ظهر جلياً في استفتاء 19 مارس (آذار)، والذي أجري لأخذ الرأي بتعديلات في 6 مواد من الدستور، حيث حشد الإخوان والسلفيون آنذاك أنصارهم للتصويت بنعم نصرة لـ"الدين".
وعقب إعلان نتيجة الاستفتاء، خرج الداعية محمد حسين يعقوب ليلقي خطبته الشهيرة، والتي قال فيها "إنها غزوة صناديق"، وانتهت بـ"وقالت الصناديق للدين... نعم".
المفارقة
في المقابل، لم يقدم مشاهير لبنان شيئاً يذكر للحراك الشعبي، والمفارقة أنهم كفنانين محرومون من أبسط حقوقهم، إذ إن النقابة لا تساعدهم بشيء، وهي غير فعالة أو منتجة. من المعروف أن للفنان دوراً أساسياً وبارزاً في أي حراك مطلبي، وعليه أن يكون تقدمياً وطليعياً في مواقفه، لما تمثله الشهرة من عنصر جذب لعامة الناس.
ولا بد من الإشارة هنا إلى العلاقة الوثيقة التي تربط فناني الصف الأول في لبنان مع رموز السلطة وأركانها. هل فكر أحدهم مثلاً بدعم الحراك بعمل فني أو أغنية؟ قد يكون من المبكر الحديث عن تقديم أعمال فنية، لكن بعض الثورات في العالم العربي أقدمت على ذلك ومصر خير مثال على ذلك.
ومن المفارقات التي تحصل في الساحات، بث أغاني جوليا بطرس دوماً علماً أنها زوجة وزير الدفاع الياس أبي صعب المنتمي إلى التيار الوطني الحر، والذي يطالب الحراك باستقالته مع بقية أفراد الحكومة.
جوليا التي اشتهرت بدورها المقاوم عبر الفن، وقدمت أعمالاً ملتزمة جميلة أبرزها "غابت شمس الحق" التي باتت أيقونة من أيقونات الأغاني الملتزمة، باتت تغني للثورة والانتفاضة من برج عاجي.
الفن البديل
لعبت الأغنية الاحتجاجية دوراً مهماً في الحراك الذي شهدته دول عربية، وساهمت في بعض البلدان برسم ملامح الرئيس الجديد، عبر نقلها مطالب الشعب في قالب فني. مع اندلاع الثورة التونسية عام 2011، برزت العديد من أغاني الراب التي واكبت هذه الثورة وحمتها لما فيها من نقد للطبقة السياسية الحاكمة وفضح للمستور، والأهم كسر حاجز الخوف من السلطة. اعتقل مغني الراب الشهير حمادة بن عون الذي قدّم أغنية "رئيس لبلاد" والتي فتحت الباب أمام زملائه للسير في هذا النهج الانتقادي اللاذع.
المشهد الفني في مصر كان مشابهاً، مع تغيير بسيط في النمط الفني، إذ لعبت فرق موسيقى "الأندرغراوند" دوراً بارزاً في توعية المتظاهرين وحضهم على أن تكون ثورة يناير سلمية لا عنفية، فبرزت فرقة "كايروكي" حين قدّمت أغنية "اثبت مكانك"، و"مطلوب زعيم" التي أوقف بثها على القنوات المحلية بعد نشرها، لما فيها من نقد لاذع لسدة الرئاسة المصرية. كما برزت فرق أخرى لفتت نظر الإعلام إلى مشاكل بعض المناطق المهمشة وطرحت بعض الحلول للأزمة المصرية كما في أغنية "لو بقيت رئيس" لبلاك ثيما.
لم تكن الأغنية النمط الفني الوحيد الذي برز خلال الثورتين المصرية والتونسية والجزائرية والسودانية أخيراً، لكنه الأبرز، في موازاة صعود ملحوظ لفن الغرافيتي ووسائل التعبير البصرية. وانطلاقاً مما تقدم، بدأ الحراك الشعبي الذي يشهده لبنان، يأخذ المنحى ذاته، بعدما فجرت الأزمة المعيشية في البلد "ثورة شبابية" على النظام والسلطة، مطالبة باستقالة الحكومة.
ثمة لوم وعتب على وسائل الإعلام عموماً، إذ إنها لم تر إلا المشاهير، فالساحات تضم فنانين شباناً وملتزمين، يحاولون التعبير عن غضبهم بالفن ومنهم زياد سحاب مثلاً الذي قدم أغنية بعنوان "هنا بيروت" وأهداها إلى الحراك المطلبي، لكن الشاشات لم تخصص لها الوقت ولا حتى الإذاعات، والفنان التشكيلي أحمد السيد الذي يحاول من خلال الرسم التعبير عن غضبه وانتفاضته.
ويقول السيد "الكلمة لي ما تبقى رصاصة ملعونة وخاينة، هذا المقطع من إحدى الأغاني المصرية، أصدق توصيف برأيي عن مدى ارتباط الفن بالثورات والتحركات المطلبية والاحتجاجية في العالم، وقد نستطيع استبدال الكلمة باللوحة أو المنحوتة أو الرقصة أو أي نوع آخر من أنواع الفنون". ويضيف "الفنان قبل أي شيء هو إنسان وهو ابن مجتمعه، بالتالي وقوفه على الحياد في القضايا المصيرية التي يقاتل شعبه لأجلها يعزله ويسلخه عن إنسانيته".
ولا يتوقف الأمر عند السيد وسحاب، إذ إن العديد من فناني الغرافيتي يزينون جدران بيروت بأعمالهم، ويرسمون للأطفال على وجوههم. ولدى سؤالنا الكاتب ومغني الراب بوناصر الطفار، عن عدم تقديمه أي عمل مطلبي حتى الساحة، كما فعل في حراك 2015، أجاب "للمرة الأولى منذ زمن دعونا نستمتع بصوت الشعب، وثمة وقت للكتابة والغناء لاحقاً".
وفي سياق متصل، صدر بيان باسم مجموعة "فنانون من الشعب" بعد تقديم رئيس الحكومة سعد الحريري ورقته الإصلاحية، ومن أبرز ما ورد فيه "حق التظاهر الذي كفله الدستور اللبناني، إسقاط الحكومة وتشكيل أخرى من ذوي الاختصاص، تجميد حسابات كل السياسيين وكبار الموظفين". ومن الموقعين عليه بديع أبو شقرا ووسام حنا وأنجو ريحان وزياد سحاب وعبده شاهين.
اقتحام تلفزيون لبنان
في خطوة لافتة، اقتحمت مجموعة من الفنانين اللبنانيين، الثلاثاء، مبنى تلفزيون لبنان الحكومي في العاصمة بيروت، رفضاً لسعي الحكومة إلى خصخصته. ومن بين الفنانيين، بديع أبو شقرا وأنجو ريحان وجنيد زين الدين ووسام حنا.