مرّ الأسبوع الأول على الحراك الشعبي اللبناني المطالب بالإصلاحات السياسية والاقتصادية، ومحاسبة الطبقة السياسية الحالية والسابقة على كل ما قامت به من نهب للأموال العامة وسياسة الإفقار "المقونن" عبر فرض الضرائب على الطبقات المتوسطة والفقيرة والاستخفاف بحقوق المواطنين. ومن المرجح، لا بل من المؤكد حسب مواقف المشاركين في هذا الحراك، أن تستمر الاعتصامات في الأيام المقبلة، وهذا الاستمرار مفتوح على كل الاحتمالات، التي تشمل تغييرات في تكيتكات وآليات التحرك والاعتصامات والتظاهرات والشعارات التي يرفعها.
الحراك الشعبي يراهن على عامل الوقت في الوصول إلى مطالبه من خلال الاستمرار بمحاصرة السلطة السياسية المتمثلة بالنظام. هذا النظام الذي دخل في مرحلة البحث الجديّ عن سلسلة من الحلول التي يعتقد أنها قد ترضي الشارع وتقنع المعتصمين بالعودة إلى حياتهم الطبيعية وتسمح بإعادة عجلة مؤسسات الدولة للدوران، وهي حلول لا تخرج عن كونها "ترقيعية"، مرة تتحدث عن تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة، وتارة تتحدث عن تعديل وزاري، سقط عندما تتطرق إلى إمكانية أن يكون على حساب زعيم التيار الوطني الحر، وزير الخارجية جبران باسيل، بما يعنيه من ضربة معنوية للعهد وحلفائه، في ظل رفض تام وغير قابل للنقاش للحديث عن استقالة الحكومة والذهاب إلى تشكيل حكومة جديدة على أنقاض الحكومة القائمة.
وإذا ما كان فريق السلطة والقوى السياسية الممسكة بزمام الدولة تمتلك رؤية واضحة تريد الوصول إليها وإفراغ الحراك الشعبي من مضمونه ومطالبه العادلة، فإن الحراك لم يصل حتى الآن إلى إنضاج رؤية موحدة تجعل منه أو تفرضه مفاوضا صلبا وقويا مع هذه القوى وتمكنه من فرض رؤيته الإصلاحية وتحقيق مطالبه.
موقف واحد يتفق عليه فريقا الأزمة، الحراك والسلطة، لكن باتجاهين متعاكسين، هو الموقف من الاعتصامات وسياسة قطع الشرايين التي تصل بين المناطق اللبنانية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، أي الطرق الرئيسة، فالحراك يعتقد أن الخروج من ساحات الاعتصام ومناطق التجمعات التي باتت تشكل رمزية له خارج العاصمة بيروت قبل فرض شروطه أو بعضها على السلطة والحكومة، يعني خسارة له أمام هذه السلطة التي خرج ضدها، ما يعني بالتالي خسارته لأي إمكانية في المدى المنظور على الاعتراض بانتظار فرصة تاريخية جديدة قد تتأخر في المجيء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، يعتقد فريق السلطة والقوى السياسية المتحالفة معه، خصوصا تلك التي نالها الجزء الأكبر من الضرر وكانت محل تصويب من الحراك، في وضع استراتيجية واضحة ومرحلية لاستيعاب هذا الحراك وإفراغه من مطالبه، بما يسمح له بالاستمرار في نهجه السياسي والاقتصادي بالتزامن مع لجوئه إلى تقديم جرعات إصلاحية لا تمسّ جوهر الأزمة مباشرة وتحافظ على مكتسباته وآليات عمله في إدارة الشأن العام القائمة على المحاصصة وتقاسم المغانم.
وهذه الاستراتيجية تقوم في مرحلتها الأولى على تحقيق الهدف الرئيس بإعادة فتح الطرقات بين المناطق اللبنانية، تحت ذريعة تأمين الدورة الحياتية للمواطنين ومصالحهم الاقتصادية والتجارية التي تضررت بسبب هذا الإقفال. وهو هدف يجب تحقيقه لدى هذا الفريق على وجه السرعة بأي شكل من الأشكال وحتى بأي ثمن يتطلبه، وتأكيده في الوقت نفسه على أنه لا يعارض استمرار الاعتصامات، وهو الموقف الذي عبّر عنه رئيس الوزراء، سعد الحريري، في خطابه الذي أعلن فيه الورقة الإصلاحية لحكومته والعهد، وأنه لا ولن يطلب من المعتصمين الخروج من الشارع وبإمكانهم الاستمرار في حراكهم، معتبرا أن ذلك يساعد الحكومة في تسريع عملية الإصلاح التي أطلقها.
أما المرحلة الثانية فتقوم على تحويل الاعتصامات إلى حركة معزولة من دون تأثير من خلال استمرارها بعيدا عن استخدام الشارع للضغط على السلطة وتعطيل عملها.
أمام هذا المسعى لفريق السلطة، يبدو أن هناك قوى خلف الستارة تعلن تأييدها للحراك، إلا أنها تقف عائقا أمامه وتعرقل مساعيه لبلورة مطالبه في ورقة واضحة ومحددة تشكل أساسا في حال قرر المحتجون القبول بمبدأ التفاوض مع السلطة والحكومة كمدخل حتمي لأي حل يقنع المعتصمين بالخروج من الشارع.
وترى هذه القوى في أي اتفاق للحراك على رؤية (سياسية- اقتصادية- اجتماعية) واضحة المعالم والأهداف، خسارة لكل الأهداف التي خاطرت من أجلها وأبدت استعدادها للدخول في مواجهة مع التركيبة السياسية القائمة المتحكمة بالسلطة على خلفية تقاسم الحصص والمغانم واستبعاد طرف لحساب طرف آخر، لأنها ترى أن نجاح الحراك في تأطير نفسه في ورقة مطالب واضحة وتحصين نفسه عن الاستقطابات السياسية، يعني تحوله في المرحلة المقبلة إلى تحدٍ غير مرغوب به لهيمنتها وسيطرتها المزمن على الحياة السياسية والحزبية في لبنان، خصوصا وأن ما سينبثق عن هذا الحراك سيكون خارج الاستقطاب الطائفي والمذهبي، ويقوم على نصاب وطني عابر للطوائف، ما يعني تهديدا لسلطتها وسلطة القوى الأخرى التي ستكون أيضا أمام تحدي بيئاتها الخاصة الطائفية والحزبية.
من الواضح أن قوى السلطة قد اتخذت قرارها بحسم الموقف والانتهاء من تحدي الاعتصامات وقطع الطرقات، ونقلها إلى أماكن خاصة لا تعرقل الحياة العامة وتهدد بالتطور إلى ما يشبه العصيان المدني، وهي في تسابق مع الوقت لإنجاز هذه المهمة أو المرحلة، التي ستؤسس للمرحلة التالية، من خلال استنزاف هذا الحراك في الشارع ومنعه من تحقيق أي من مطالبه سوى تلك التي يتفق عليها أركان النظام على تقديمها والسماح بها، وصولا إلى إدخال اليأس إلى نفوس الشريحة الأوسع من المحتجين وفرط عقدهم.
ومن الطبيعي أن تكون هذه القوى، في حال نجحت في تحقيق الخطوة الأولى، الأقدر على تحمل الأعباء أكثر من المحتجين الذي خرجوا للتفتيش عن حياة أفضل والمطالبة بإصلاح حقيقي يضمن لهم العيش في وطن يحترم إنسانيتهم ومواطنتهم. لذلك فإن الحراك أمام تحدٍ يتطلب منه تحقيق "انتصار" ولو جزئي، يضمن له تكريس نفسه قوة شعبية تفرض إرادتها على السلطة، وإلا فإنه سيدخل في سباق "من يصرخ أولا"، ومن الطبيعي أن يكون هو الأول، لأنه سيكون الطرف الأضعف في معركة "عضّ الأصابع" التي لن تقتصر عليه، بل ستطال كل حركة مطلبية لا تكون في سياق بعض القوى التي تستخدم سلاح الإصلاح لإضعاف شركائها أو منافسيها حتى ولو كانوا شركاء معها في السلطة.