موقع المرأة في مملكة الرجل هو الموضوع الذي ينتظم أحداث "رميم"، الرواية الجديدة للكاتبة الجزائرية فضيلة ملهاف. وهو موضوع قديم طالما طرقته الرواية العربية، في إطار طرح المسألة النسوية، وغالباً ما تكون المرأة في موقع الضحية المغلوبة على أمرها في مجتمع ذكوري يفرض عليها أعرافه وتقاليده. غيرَ أنّ الجديد في مقاربة ملهاف هذا الموضوع هو أنّ المرأة في "رميم" لم تعد مجرّد ضحية يقع عليها الفعل، تلوذ بالصمت والخسران، بل هي امرأة تقاوم الظلم، وإن من موقع ردّ الفعل، التي ترقى أحياناً إلى ردّ الصاع صاعين، كما فعلت الزوجة والأم عتيقة، الشخصية المحورية في الرواية، في مواجهة سليمان الزوج والأب.
يُشكّل وجود الأم في غرفة العمليات، إثر سقوطها عن شجرة، البداية النصّية للرواية، ونقطة تحوّل مفاجئة، يكون لها ما بعدها من مضاعفات، هذه الواقعة تصدم أفراد الأسرة أباً وأولاداً، وتضعهم إزاء مسؤولياتهم، ففي غمرة الخوف عليها، يشعر كلٌّ منهم بالذنب والتقصير والندم إزاء الأمّ التي تحضن الجميع، وتصبّ عندها آلامهم وآمالهم، وترزح تحت ضغوط البيت وتقلّباتها الصحّية. وتأتي الوقائع الأخرى لتظهر عقوق الأولاد وتخلّي الأب، من جهة. وتُفاقم الشعور بالذنب، من جهة ثانية. وتعكس محاولات التكفير الخجولة عن هذا الشعور، من جهة ثالثة. فنحن إزاء امرأة تتموقع بين إخوة يحرمونها الميراث ويحمّلونها مسؤولية المسّ بالعائلة، وزوج يتخلّى عنها عند أوّل منعطف، وأبناء يعقّونها. فتتردّى في مشاعر الخيبة والتخلّي والخذلان. غير أنّها تستطيع، بصلابتها واعتدادها بنفسها وإيمانها بحقّها في الحياة، أن تنتقم لكرامتها من دون التخلّي عن إنسانيّتها والتعاطف مع ذوي قرباها، حين تدعو الحاجة، على الرغم من ظلمهم. ويتّخذ هذا الانتقام تمظهرات عدّة في الرواية، تتراوح بين مقاطعة الزوج، ومغادرة المنزل، وعدم الرجوع إليه، وإجارة الضرّة، ورفع دعوى خلع الزوج.
نقاط تحول
على أنّ نقطة التحوّل التي تبدأ بها الرواية تعقبها نقاط أخرى، تقوم عليها البنية الروائية، فتنتقل من نقطة تحوُّل إلى أخرى، مع ما يترتّب على كلّ نقطة من نتائج. ولعلّ أبرز النقاط هي: المستشفى، شلل الأم، زواج الأب، مغادرتها البيت، السفر للعلاج، استعادة القدرة على المشي، التفاهم مع الضرّة، رفع دعوى الخلع، الطلاق، واضطرابات الزوج النفسية... والعلاقة بين النقطة والتالية يطغى عليها عنصر المفاجأة، فوجود الأم في غرفة العمليّات، على سبيل المثال، لا يترتّب عليه بالضرورة شللها، فالشلل واحد من احتمالات عديدة يمكن أن تتعرّض لها، وليس نتيجة حتمية لهذا الوجود، ما يمنح الواقعة صدمة المفاجأة. بينما تغلب السببية على العلاقة بين النقطة الواحدة والنتائج المترتّبة عليها، فإصابة الأم بالشلل تؤول بها إلى الوحدة والصمت والقلق، وتؤول بالأب إلى فتور مشاعره نحوها وتضاؤل اهتمامه بها، على الرغم من الوعود والعهود التي قطع. وهذه نتائج طبيعية لسبب طبيعي. وهنا، لا بدّ من الملاحظة أنّ التحوّلات النفسية والسلوكية التي تطرأ على الشخوص المختلفة ناجمة عن ظروف خارجية، تفعل فعلها في الشخصية، وتغيّر في موقفها وسلوكها.
تتمظهر المسألة النسوية في العلاقة غير السَّويّة بين المرأة والرجل، سواءٌ كان الرجل أخاً أو زوجاً أو ابناً، فعتيقة، الشخصية المحورية، في الرواية، يحرمها الإخوة من الميراث، ويتّهمونها بالمسّ بالعائلة حين يتخلّى ابنها عزيز عن الزواج بابنة خاله خليصة، ويغدر بها الزوج حين يقترن بأخرى خفيةً عنها مؤثراً رغباته على وعوده وعهوده المقطوعة، ويعقّها الأبناء في عدم وضع حدٍّ لأبيهم.
لا تقتصر العلاقة غير السَّويَّة على الشخصية المحورية بل تتعدّاها إلى الشخصيات الأخرى الثانوية، فالعمّة زبيدة تعاني عقوق الأبناء الذين يريدون الاستيلاء على بيتها، وتعيش الوحدة والبرد والتهميش والخذلان، وتواجه تعنّت الأخ الذي يعيب عليها الزواج الثاني في سنٍّ متأخّرة. والزوجة الثانية زينب ضحيّة زوجٍ سابق أُكرِهَت على الزواج منه، وزوج حاليّ يقوم بضربها وتعنيفها. والابنة سميرة مهدّدة بالطلاق لعدم إنجابها الصبيان. والابنة مسعودة، الراوية والطبيبة النفسية، تعيش أزمة صامتة في علاقتها بزوج خارج من تجربتين زوجيّتين. والابنة الأخرى راضية يستغلّ زوجها مشاعرها المراهقة ويجتثّها من طفولتها. وهكذا، نرى أنّ المرأة في الرواية، سواءٌ كانت أمّاً أو عمّة أو ضرّة أو ابنة، تقع عليها أفعال الرجل المستندة إلى مجتمع ذكوري، ويكون عليها الاختيار بين الخضوع له والتمرّد عليه، ولكلّ من الخيارين ثمنه الغالي.
في "رميم"، تتصدّى بعض النساء لتلك الأفعال، وتردّ الصاع صاعين، وهذا ما يفرّق الرواية عن روايات أخرى تتناول المسألة النسوية، وتقدّم صورة نمطية للمرأة الخاضعة لأحكام الرجل وأعراف المجتمع. فعتيقة، الشخصية المحورية في الرواية، قوية وصلبة، تعتدّ بكرامتها، وتؤمن بحقّها في الحياة، ذات سلطة على أبنائها الذكور، على الرغم من عقوق بعضهم، فلا تغفر لابنها عزيز تخلّيه عن ابنة خاله بعد سنوات من فعلته، وتغفر له حين تعرف السبب. تغادر البيت حين تعلم بزواج الزوج، تقاطعه، ترفض العودة إليه بعد شفائها، تجير ضرّتها التي استجارت بها، ترفع على زوجها دعوى الخلع فتثور ثائرته ويستنجد بأولاده لثنيها عن ذلك لأنّ في الأمر مسّاً بكرامته في الوقت الذي يجيز فيه لنفسه الطلاق. وهنا، تتكشَّف ازدواجية المعايير في المجتمع الذكوري، فالرجل يبيح لنفسه الطلاق ويحرّم على زوجته الخلع، ويتزوّج ثانية وثالثة ويعيب على أخته ذلك، يطلّق لسبب تافه ويمنع صهره من طلاق ابنته لسبب تافه.
مواجهات أسرية
في السياق نفسه، تتصدّى العمّة زبيدة لرغبة أبنائها في سلبها البيت، وتتحدّى ممانعة أخيها زواجها في سنٍّ متأخرة، وتأخذ قرارها بيدها. وتنتفض الزوجة الثانية زينب لكرامتها، فتغادر بيت الزوجية، وتلجأ إلى ضرّتها التي تجيرها، وترفض العودة إلى البيت، حتى إذا ما قام الزوج بطلاقها تحصل على حريّتها غير عابئة بمصيرها المجهول. وعلى الرّغم من أنّ هذه السلوكيات التي لجأت إليها النساء الثلاث من موقع الدفاع عن النفس قد تنطوي على شيء من الانتقام المتأخّر من ذكورية الرجل إلاّ أن المرأة لا تتخلّى عن حسِّها الإنساني، فعتيقة تأسى لما آلت إليه أوضاع الزوج النفسية وتغضب من أولادها لإخفائهم الأمر عنها، وتهبّ لزيارة أخيها لدى معرفتها بمصير ابنته خليصة، متخطّيةً مصادرة حقّها في الميراث، والاتهامات التي كِيلت لها. وزبيدة تنصرف إلى العناية بأخيها سليمان حين ساءت أوضاعه العقلية والجسدية مغلِّبةً مشاعر الأخوّة على ما عداها.
تُسنِد فضيلة ملهاف مهمّة الروي إلى راوية شريكة تستبطن راوية عليمة حين تروي حكايات الآخرين، فتجمع بين وظيفتي المشارَكة في صنع الأحداث والشهادة عليها. ويقوم الخطاب الروائي، في الشكل، على مجموعة من نقاط التحوّل، تكسر أفق توقّعات القارئ، فينتقل بينها ما يشحذ الرغبة في القراءة، ويمنح النص التشويق اللازم. مع العلم أنّه يتّخذ مساراً أفقيّاً تراكميّاً، يتكسَّر صعوداً ونزولاً، ويخرج عن البنية الهرميَّة التقليدية للرواية. ويقوم، في المضمون، على العلاقة الجدلية بين المرويِّ والمقروء، فالراوية تنتقل بالتناوب بين أحداثٍ شاركت فيها أو شهدت عليها عياناً أو سماعاً، وبين أحداث مشابهة قرأتها في رواية على الرغم من انتمائها إلى فضاء روائي مختلف زمانيّاً ومكانياً، وتنخرط في عمليات مقارنة مختلفة بين المرويِّ والمقروء. غير أنّ عدم تسمية الرواية المقروءة، وتشابه النصّين في اللغة يشي بأنّ الأمر لا يتعدّى حيلة روائية لجأت إليها الكاتبة لتخصيب خطابها الروائي. وهذا لا ينطبق، بطبيعة الحال، على النصوص الميثولوجية التي طعّمت بها نصّها ممّا ينتمي إلى الميثولوجيا اليونانية ويمنحه بعداً ثقافويّاً. هذه العمليات النصية المنتظمة في إطار تفاعلي تصوغها الكاتبة بلغة سردية رشيقة، تكتنفها عبارات إنشائية أحياناً، وتستخدم محسّنات البلاغة في غير موضع. وتصوغ الحوار بلغة فصيحة تنحدر إلى التقعّر اللغوي في بعض العبارات (ص 9)، ولا تتناسب مع مستوى الشخصية المحاوِرة.
استطاعت فضيلة ملهاف أن تقدّم نصّاً روائيّاً رشيقاً يتناول قضية مطروقة، من "منظور مختلف"، فجمعت بين رشاقة النص وجِدَّة المنظور، فأحيت عظام الكتابة وهي "رميم"، واستحقَّت شرف القراءة.