ملخص
صحيح أن الفيلم المعنون اليوم "البيتلز عام 64" ليس هو العمل الموعود، لكن المخرج الكبير أطلق العنان لصانعي هذا الفيلم ومدهم بمقاطع كبيرة شكلت عماد هذا العمل التلفزيوني الجديد.
في اليوم السابع من فبراير (شباط) 1964 كانت أسابيع قليلة فقط قد مضت على اغتيال الرئيس جون كينيدي بولاية تكساس الأميركية، أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 1963، وهي الحادثة التي اعتبرت، ولأسباب كثيرة، نقطة فاصلة في التاريخ الأميركي الحديث. وكانت أميركا كلها غارقة في الحزن والارتباك من جراء ما حدث حينها، غير أن ملايين المراهقين والشباب الأميركي بدا عليهم يومها أنهم نسوا تلك الجريمة المروعة التي قضت على رئيس كان يمثلهم ربما أكثر من أي رئيس آخر في تاريخهم، ليفتحوا أذرعهم ويرسموا على وجوههم ابتسامات سعادة لا تضاهى مرحبين بأولئك الشبان الإنجليز الأربعة الذين يأتون زائرين إلى بلاد "اليانكي" للمرة الأولى معاً، وللمرة الأولى كفريق موسيقي متجانس يبيع يومياً عشرات ملايين الأسطوانات ويقلب تاريخ الفنون الشبابية رأساً على عقب. في ذلك اليوم بدا أن جون كينيدي بات منسياً تماماً، ولو إلى حين. وبدأ كل شيء شاباً مموسقاً، صاخباً ضاحكاً، وهستيرياً خصوصاً. بدا وكأن التاريخ الماضي كله قد انتهى وأن ثمة تاريخاً جديداً للعالم يكتب في ذلك اليوم من جديد، أو هذا في الأقل ما يقترحه الفيلم التلفزيوني الذي عرضته التلفزة الفرنسية قبل أيام، واستغرق عرضه ما يقارب ساعتين ليعيد الحياة ويذكر بأسطورة مضى على ولادتها 60 عاماً، ونصف قرن على موتها على أية حال.
أرقام قياسية
ما نتحدث عنه هنا تحديداً هو أسطورة فريق "البيتلز" الإنجليزي الذي كان قبل حجه إلى نيويورك حجاً لا بد منه لتكتمل مكانته في العالم، كان قد قام بجوالات أوروبية كرسته في العالم القديم وبات عليه أن يثني على ذلك، بالتكريس الأميركي الذي لم يكن منه بد حتى ولو أن النجوم الأربع الآتية من ليفربول مدينة العمال اليسارية البريطانية مروراً بالمعقل القديم لليسار الأوروبي في ألمانيا، هامبورغ، تلك النجوم تمنعت، أول الأمر، وهي التي كانت ترى أن كل ما لديها من فن يقف بالتعارض مع كل ما يملكه الأميركيون ويمثلونه، لكن هؤلاء سرعان ما اقتنعوا هم الخارجون بالكاد من سن المراهقة (كانت أعمارهم تراوح ما بين الـ22 والـ25)، بأن تلك الرحلة حتمية. كان لسان حالهم يقول "أيام وننهيها ونعود إلى قواعدنا سالمين". وكان ذلك ما حدث بالفعل، لكنهم لم يعودوا "سالمين" تماماً. عادوا مذهولين مأخوذين وقد تبدل جذرياً كل ما كانوا يعتقدون أنهم يعرفونه عن تلك القارة العجيبة وعن شعبها وإعلامها. والحقيقة أن ثمة رقماً واحداً يؤكده الفيلم التلفزيوني الذي نتحدث عنه: لقد ظهر بول وجون وجورج ورنغو في واحد من أشهر البرامج التلفزيونية الحوارية خلال الرحلة، فبلغ عدد متفرجي الحلقة 73 مليون مشاهد. وكان ذلك أعلى رقم سجلته أية تلفزة في العالم حتى ذلك الحين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هستيريا معممة
غير أن أعضاء الفريق لم يكونوا مضطرين للاطلاع على عدد الذين في برنامج "إد سوليفان" التلفزيوني الشهير، ليتأكدوا من أن ما يحدث لهم في العالم الجديد، شيء لم يعبر يوماً أحلام أي واحد منهم. فالهستيريا الجماعية، بخاصة كانت قد بدأت تواكبهم منذ حطوا رحالهم في أرض المطار النيويوركي حيث وجدوا في انتظارهم أعداداً هائلة من شبان وشابات احتشدوا مجتاحين أرض المطار وكل زاوية فيه، لاستقبال أبناء عمهم الإنجليز، صارخين صاخبين ضاحكين غاضبين، بينما رجال الأمن عاجزون تماماً عن كبح كل ذلك الجنون الجماعي الذي لن تعرف الحياة الموسيقية الأميركية أي مثيل له، إلا بعد ذلك بسنوات لمناسبة انعقاد ذلك اللقاء الموسيقي الغنائي المجنون هو الآخر في وودستوك، لكن تلك حكاية أخرى، حكاية أميركية خالصة. أما الحكاية التي كانت بدايتها ذلك الزحف المريع الذي استقبل "البيتلز" في نيويورك فكان شيئاً آخر تماماً. كان نوعاً من استيلاء الشبيبة على العالم بكل بساطة. أو هذا في الأقل ما صوره ذلك الفيلم التلفزيوني الذي لعل أهم ما يمكننا أن نقوله في صدده إنه لم يحمل في ثناياه أي جديد يذكر حقاً. بل إن الجديد الذي ألحق به حديثاً كان أضعف ما فيه، لأنه كان عبارة عن لقاءات مع عجائز تم العثور عليهم واستنطاقهم من بين الأميركيين العاديين الذين كانوا قد شاركوا في ذلك الحدث الفظيع وتحديداً في صفوف الجمهور، فراح كل واحد، أو واحدة منهم، يتذكر مردداً العبارات نفسها التي غالباً ما يترافق التعبير عنها مع كم من الدموع والحنين وربما مع شيء من السخرية من الذات!
دور مارتن سكورسيزي
أما الجديد والرائع حقاً فكانت مجموعة الشرائط والأفلام والوثائق والصور المؤرشفة التي صور معظمها خلال تلك الأيام النيويوركية العجيبة نفسها، والتي يبدو أن بعضها قد بارح مخابئه للمرة الأولى منذ زمن بعيد لزوم المشاركة في هذا الفيلم. ولعل الفضل في ذلك يعود إلى مارتن سكورسيزي المخرج الكبير الذي صرح بأنه عاش يومها ذلك الحدث بنفسه كغيره من الفتيان النيويوركيين. وبفضل عمله هو نفسه في هذا الفيلم، تمكن سكورسيزي من الحصول ما لم يحصل عليه غيره وهو عبارة عن ألوف الأمتار من الشرائط التي صورها ميدانياً في ذلك الحين المصوران الأخوان ديفيد وألبرت مايلز اللذان تمكنا من ملاحقة نجوم ليفربول الأربعة خلال أيام تجوالهم النيويوركي لحظة بلحظة. والغريب أن تلك الشرائط اختفت منذ ذلك الحين تماماً، باستثناء بعض أجزائها التي راحت تعرض بين الحين والآخر لمناسبات متنوعة. وسكورسيزي، منذ عرف في شأن هذه الشرائط حجزها لنفسه وقد قرر أنه سيستخدمها في عمل مقبل له.
صحيح أن الفيلم المعنون اليوم "البيتلز عام 64" ليس هو العمل الموعود، لكن المخرج الكبير أطلق العنان لصانعي هذا الفيلم ومدهم بمقاطع كبيرة شكلت هي عماد هذا العمل التلفزيوني الجديد في متابعته العامة حيناً والحميمية في أحيان أخرى، وقد حرص صانعو الفيلم، ليس فقط على التاريخ للجولة النيويوركية، بل أكثر من ذلك على التأريخ من موقع علم اجتماع بالغ الرهافة لشبيبة أفلتت يومها من عيالها لتغزو العالم سياسياً، ولكن انطلاقاً من ولع بذلك الغناء والموسيقى الجديدين اللذين ابتدعهما "الخنافس" الأربعة. وللمناسبة، ربما فات الفيلم أن يخبرنا أن تلك الشبيبة كانت هي نفسها التي ستشعل مع نظيرتها في أوروبا لا سيما في فرنسا، كما في أنحاء عديدة من العالم تلك الحركات الشبابية التي غيرت العالم لا سيما انطلاقاً من العام 1968 واصلة إلى ذروتها في ما سمي "مايو (أيار) الفرنسي"، لكن في إمكان اي متابع للفيلم أن يدرك ذلك ويدرك في طريقه أن السنوات الخمس التي فصلت بين بدايات الـ64 وربيع الـ68، كانت سنوات ربما يمكن اعتبار مغنيي ليفربول الأربعة أبطالها الحقيقيين الذين شاركوا غيفارا، ومارتن لوثر كينغ، و"الفهود السود"، وأنغيلا ديفيس، والمقاومين الفلسطينيين الحقيقيين في صنعها. وما الفيلم الذي نتحدث عنه هنا سوى شاهد على ذلك!