عادت إلى واجهة الأحداث في العاصمة السودانية الخرطوم قضية تسليم الرئيس السابق عمر البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تتهمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إبان الصراع العسكري بين القوات الحكومية والحركات المسلحة في إقليم دارفور غرب السودان الذي بدأ في العام 2003، وراح ضحيته 300 ألف قتيل وتشريد أكثر من مليوني شخص إلى المناطق القريبة من الإقليم ودولة تشاد المجاورة.
تأتي هذه التطورات في ظل ضغوط دولية ومحلية تطالب بضرورة تعاون الحكومة الانتقالية في السودان مع المحكمة الجنائية في لاهاي بمثول كل من ارتكب جرائم حرب وإبادة بحق الشعب السوداني في فترة النظام السابق وفي مقدمهم رئيس الحكومة السابقة أمام القضاء الدولي ممثلاً في المحكمة الجنائية، حيث بحث وفد من الاتحاد الأوروبي يزور السودان حالياً مع النائب العام السوداني تاج السر الحبر قضية تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية.
ووفق بيان صادر من النيابة العامة السودانية، فإن الاتحاد الأوروبي يرغب في الحصول على إجابات عن بعض الاستفسارات، بشأن الأحداث السابقة طوال فترة 30 عاماً، ومنها موقف السودان من المحكمة الجنائية الدولية وتسليم البشير، إضافة إلى فض الاعتصام وموقف النيابة العامة السودانية تجاه الانتهاكات السابقة، التي حدثت خلال 30 عاماً، وكيفية وضع المعالجات لها، مؤكداً أن الاتحاد الأوروبي أعرب عن استعداده لتقديم الدعم الفني في مجال بناء القدرات لأعضاء النيابة العامة وبقية أجهزة إنفاذ القانون الوطنية، بما يتصل بالتحقيقات في جرائم الفساد وغسل الأموال وأوجه الجريمة العابرة الحدود التي تشمل أكثر من دولة.
وأكد النائب العام السوداني أن النيابة العامة تعمل في ظل التحديات التي طرحتها المرحلة بعد التغيير الذي طرأ على منظومة السلطة بالبلاد، موضحاً أن النيابة العامة سلطة مستقله تستمد سلطاتها من الوثيقة الدستورية وقانون النيابة العامة لعام 2017، وستجري التحقيقات في الجرائم والانتهاكات التي وقعت منذ العام 1989، بالإضافة إلى جرائم القتل خارج القانون والانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان وللجرائم كلها". وأكد الحبر، منوهاً إلى أنه تم إنشاء لجان لإجراء تحقيقات حول تلك الجرائم.
محاكم مستقلة
في المقابل، يرى المحامي محمود حاج الشيخ في حديث إلى "اندبندنت عربية" أن هناك فريقين لديهما رأيان مختلفان في التعامل مع قضية تسليم الرئيس السابق إلى المحكمة الجنائية. الفريق الأول يقول "طالما وجدت مرحلة انتقالية ومحاكم مستقلة تتمتع بالكفاءة فإنه يجب محاكمته محلياً". أما الفريق الثاني فيعتقد أن تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية يتعلق بجرائم ضد الإنسانية وهي جرائم حرب وإبادة لم يكن منصوصاً عليها في قوانين 2003 و2010، وبالتالي أن التطبيق بأثر رجعي يكون غير قانوني، فضلاً عن تعرض حقوق كثير من المتضررين إلى الضياع، لذلك لا مناص من التسليم، بالإضافة إلى أنه من الناحية السياسية لا بد من الانصياع إلى قرار المحكمة الجنائية.
في حين أكد القيادي في قوى الحرية والتغيير المحامي ساطع الحاج أن القضاء السوداني في ظل الحكومة الحالية مؤهل لمحاكمة البشير وفق التهم الموجهة إليه سواء جرائم حرب أو إبادة جماعية ضد الإنسانية، لافتاً إلى أن التسليم إلى المحكمة الجنائية يكون في حالة عجز أو فشل القضاء المحلي لعدم قدرته على المحاكمة، مبيناً أن المجتمع الدولي يعلم أن هناك حكومة تعبر عن الشعب ولا تحمي أي فاسد، وتقيم دولة قانون ودولة مدنية، كما لا توجد أي محاولة لتغبيش الوعي. وأكد الحاج أيضاً أن مسألة تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية لم تناقش على المستويات الرسمية سواء داخل أروقة الحكومة الانتقالية أو قوى الحرية والتغيير.
مناقشة القرار
وفي وقت سابق أكدت الحكومة الانتقالية في السودان أنها ستوكل للجهات القانونية أمر البت في تسليم قادة النظام السابق المطلوبين لدى محكمة الجنايات الدولية، وذلك في أعقاب إعلان منظمة إنهاء الإفلات من العقاب أن المحكمة الدستورية قبلت شكلاً عريضة تقدمت بها المنظمة للنظر في مسألة تسليم البشير إلى المحكمة الدولية في لاهاي.
وأوضح الناطق الرسمي باسم الحكومة وزير الإعلام والثقافة فيصل محمد صالح أن مجلس الوزراء الانتقالي سيناقش في وقت لاحق القرار الذي ستصدره المحكمة الدستورية بشأن تلك العريضة التي تقدمت بها منظمة إنهاء الإفلات من العقاب وقبلتها المحكمة الدستورية شكلاً، لافتاً إلى إن الحكومة ستتنظر ما يسفر عنه قرار المحكمة الدستورية والجهات العدلية والقانونية لتتخذ الموقف المناسب بشأن تسلم المطلوبين للمحكمة الدولية.
إصدار الاعتقال
وكانت المحكمة الجنائية الدولية أصدرت في العامين ٢٠٠٩، ٢٠١٠، أمرَين باعتقال البشير لاتهامه بتدبير إبادة جماعية وأعمال وحشية أخرى في إقليم دارفور، إلى جانب مذاكرات توقيف في حق آخرين من قادة نظامه، أبرزهم أحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين المعتقلين حالياً في سجن كوبر منذ سقوط حكومة البشير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومنذ سقوط نظامه في إبريل (نيسان) الماضي، كررت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا المطالبة بالإسراع في تسليم عمر البشير إلى المحكمة، لكنه حتى الآن اقتصر ظهوره ومحاكمته على محكمة محلية بتهمة حيازة أموال بطريقة غير مشروعة.
فيما أكدت منظمة العفو الدولية قبيل بدء محاكمة البشير بمحكمة الخرطوم بتهم الفساد، إنه يجب أن يواجه العدالة على الجرائم المرتكبة بموجب القانون الدولي، بما في ذلك الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، التي يُدّعى أنه ارتكبها في دارفور عندما كان في السلطة. وقالت مديرة مكتب شرق أفريقيا والقرن الأفريقي والبحيرات العظمى في منظمة العفو الدولية، جوان نيانيوكي "على الرغم من أن هذه المحاكمة تعتبر خطوة إيجابية باتجاه مساءلته عن بعض جرائمه المزعومة، إلا أنه لا يزال مطلوباً بسبب الجرائم البشعة المرتكبة ضد الشعب السوداني".
وأضافت "يجب على السلطات السودانية تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية للرد على تهم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. لقد تهرَّب عمر البشير من العدالة مدة طويلة جداً، علماً أن ضحايا الجرائم البشعة لا يزالون ينتظرون تحقيق العدالة، وتلقي التعويضات، بعد أكثر من عقد منذ أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أول مذكرة لاعتقاله".
أقدم المتهمين
ويعد البشير الذي حكم السودان مدة 30 عاماً، أحد أقدم المتهمين من قبل المحكمة الجنائية الدولية، إذ أصدرت المحكمة مذكرتَي توقيف بحق الرئيس السابق للسودان، المذكرة الأولى صدرت في 4 مارس (أبريل) 2009 بينما صدرت المذكرة الثانية في 12 يوليو (تموز) 2010. واتُهم البشير بالمسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية في أعقاب مقتل وتشويه وتعذيب مئات الآلاف من الأشخاص في إقليم دارفور.
وفي تحقيق أجرته منظمة العفو الدولية، أكدت الأدلة على الاستخدام المتكرر لما يُعتقد أنها أسلحة كيميائية ضد مدنيين، من بينهم أطفال صغار جداً، من قبل قوات الحكومة السودانية، في منطقة جبل مرة في دارفور، مؤكدة أن حجم هذه الهجمات التي قد ترقى إلى جرائم حرب، ينافس حجم الجرائم التي حقق فيها المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية.