بعد أن تمكنت السلطات السعودية من إنهاء الخلاف الذي تطور إلى مواجهات عسكرية وسفك دماء بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي في عدن، ينضم " اتفاق الرياض" إلى سلسلة من العناوين التي ترمز إلى معالجة الدبلوماسية السعودية لمعضلات الفرقاء العرب والمسلمين في مناسبات استفادت منها حكومات وشعوب وقبائل، استطاع السعوديون هندسة اختلافها لجمعها على كلمة سواء.
ومع أن اتفاق الرياض الذي خلص إليه الفريقان برعاية الرياض، أُنجز بعد جهود مضنية بذلتها القيادة السعودية والأطراف اليمنية المستقلة والإماراتيين إلا أن المناسبة لم تكن الأولى التي تضع فيها السعودية ثقلها خلف الإنسان اليمني لإنهاء الشقاق بين إخوة الوطن والدم، فبعد وصول موجة ما يسمى ثورات "الربيع العربي" إلى صنعاء كانت الرياض قادت أشقائها الخليجيين لتجنيب اليمن المتاعب عبر طرح المبادرة الخليجية التي كانت ستوفر على اليمني إنساناً وقبائل وأحزاباً ومكونات طائلاً من الدماء والأموال والصراع والشتات، إلا أن الرئيس الراحل علي عبدالله صالح وجماعة أنصار الله المتمردين الحوثيين نكثوا ما عاهدوا الخليجيين عليه فانقلب السحر على الساحر وباتت اليمن في الوضع الذي يرثى له اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أرباب الحكمة اليمانية
بيدا أن السعودية التي قال ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان لليمنيين ذات يوم إنها تنظر إليهم بوصفهم أصل العرب لم تيأس بعد من رد أرباب "الحكمة اليمانية" إلى قارعة الطريق، معتبرين أن اتفاق الرياض ربما كان اللبنة الأولى نحو تعز والحديدة ثم "لابد من صنعاء وإن طال السفر"، كما حلُم من قبل شعراء اليمن الكبار ويُؤمل أحفاد سبأ في الشتات من كل بلاد الأرض.
ولئن كان الحوثي تمرد على حكومة الرئيس هادي وأغراه الدعم الإيراني بالمسيرات والصواريخ والكيد السياسي، فإن المجتمع العربي والدولي وعروبة اليمن، تأبى أن تُسلم رقاب أرض الأحقاف إلى رجال قاسم سليماني الذين يريدون محو آثار الأزد وبكيل وحاشد ومعاذ ابن جبل لتغدوا فارسية الهوية تتربع على عرش بلقيسها طهران ووكلائها.
ولم يكن اتفاق الرياض في عام 2019 هو الأول من نوعه الذي كان برداً على اليمنيين، إذ كانت السعودية في وقت مبكر من تاريخها جنحت إلى السلم في الصراع على الحدود بينها وبين اليمن، إذ فوّض الملك عبد العزيز ابنه الملك خالد لتوقيع معاهدة الطائف عام 1934 التي أدت الى إقرار السلام ورسم الحدود بين البلدين، كما أن السعودية في تاريخ أقرب كانت الحضن الذي آوى آل حميد الدين بعد انهيار دولة الأئمة على يد الجمهوريين في 1962، وظل الإمام حميد الدين في السعودية كأحد أبنائها حتى وافته المنية ثم خلفه أبناؤه في اختيار السعودية وطناً يعزهم ويحبونه.
اتفاق الطائف وأخواتها
لكن دبلوماسية الرياض وإن أعطت اليمن أولوية بحكم الجوار والقربى، إلا أنها وسِعت برغبتها في السلم كل الذين وجدت لديهم قابلية وصدق في إنهاء عوامل الفرقة والبحث عن صيغة أقوم للتفاهم تحتكم إلى العقل بعيداً عن السلاح والاستقواء بالعدد أو العُدة. حدث ذلك في "اتفاق الطائف" بين الفرقاء اللبنانيين الذي أنهى سنوات من الحرب الضروس وأحال لبنان من الركام إلى جداول ولوحات تسر الناظرين، كما هو الحال مع المجاهدين الأفغان حين تمكنوا بمساعدة المملكة وحلفائها الأمريكيين من طرد الروس من بلادهم لكنهم ما لبثوا أن دب الخلاف بينهم بسبب السلطة، فدعتهم السعودية إلى الوفاق بمكة فنبذوه قبل أن يجف حبره، ثم عادت الكرة بعد ذلك بسنين طويلة في 2018 عندما جمعت علماء المسلمين ودعت الطالبان والحكومة الأفغانية إلى نسيان الماضي والعيش المشترك في الوطن الواحد.
وهكذا شهدت ساحات قصور مكة وجدة والرياض والطائف والجنادرية مصالحات وقمما واتفاقيات القاسم المشترك بينها "إعادة الألفة إلى قنواتها بين المختلفين العرب والمسلمين"، إذ كان ضيوفها من اثيوبيا واريتريا وجيبوتي والمغرب والجزائر وفلسطين بفتحها وحماسها والعراق والصومال وقطر والبحرين وإيران والسودان وتشاد وليبيا وأميركا وغيرها، فمنهم من صدَق وعده ومنهم من نقض "ومن نكث فإنما ينكث على نفسه".
رؤساء احتضنتهم الرياض
وإذا كان تاريخ الرياض مع التوفيق بين أصدقائها وأشقائها أصبح علامة فارقة فإن جانباً آخر وثيق الصلة بهذا النهج ظلّ أيضا سمة يذكرها الكثيرون للسعودية ويشكرونها، وهي استضافة الرياض عدداً من رؤساء الحكومات والزعماء والمفكرين الذين ضاقت بهم بلادهم فمنهم من قضى نحبه فيها ومنهم من عاد إلى بلاده موفور الصحة والكرامة.
ومن أشهر أولئك الإمام اليمني محمد البدر حميد الدين الذي أُطيح به في انقلاب 1962 وكذلك الرئيس الاوغندي عيدي أمين الذي أُطيح به في انقلاب عسكري أيضاً عام 1979، كما أن رئيسة وزراء بنغلاديش خالدة ضياء ورئيس وزراء باكستان نواس شريف كان بين أولئك الذين وجدوا صدر المملكة رحباً لهم، كما لقيا نظيرهم برويز مشرف المعاملة نفسها. وقبل عدد من أولئك وبعدهم رئيس الحكومة العراقية الشهير في عهد الإنجليز عالي الكيلاني والرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي الذي تستضيفه المملكة ليس هو وحده لكن أيضا حكومته ومستشاريه ونوابه ممن فروا من اليمن بعد الهيمنة الحوثية.
ولم يكن اليمن بدعاً من جواره الخليجي ففي الأزمة التي شهدتها الكويت في عام 1990 عند احتلالهم من جانب العراق كانت الرياض ومدن المملكة حصناً للحكومة الكويتية ومواطنيها الذين عادوا إلى بلاهم مكرمين بعد ان تقاسمت السعودية معهم أرضها ودورها وأموالها، وقال ملكها آنذاك فهد بن عبدالعزيز مقولته الشهيرة "نحن والكويت إما ان نبقى سوياً أو نذهب سوياً" فكانت تلك الجملة بين أحد أسرار تحرير الكويت التي لم يكشف عنها الكثير.
ويعتقد المحللون أن السعوديين الذين تدفعهم تقاليدهم العربية الأصيلة إلى إكرام الضيف وحسن الجوار، وقيمهم الإسلامية إلى البر وإشاعة المعروف، كان بين أسباب سلوكهم هذا النهج بفتح الصدور للغرباء والمضطهدين أمثال قيادات الإخوان المسلمين المهددين بالإعدام في عهد عبدالناصر والبرماويين والتركستانيين والبلوش والسوريين الآن، وغيرهم من النازحين المستغيثين، إنما كان وفاءً لمؤسس السعودية الحالية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل الذي كان اضطر هو وأسرته إلى ترك بلاده بعد احتلالها من جانب العثمانيين ووكلائهم متجهاً نحو جيرانهم من آل صباح في الكويت قبل أن يستعيد الملك مُلك آبائه وأجداده ليصبح قبلة لمن تضيق بهم الديار والسبل. وهي الوشائج والصلات التي ظلّ الكويتيون والسعوديون يفاخرون بها ويذكرونها مثلاً على عمق الصلة بين أبناء الخليج حكوماتٍ وقبائل وشعوباً.