في أعماله الروائية التي أنجزها خلال حوالى أربعة عقود من الزمن سعى الروائي والقاص الأردني الفلسطيني جمال ناجي (1954- 2018) إلى توليف حكاية، أو حكايات، تلتقي في لحظة تنوير أخيرة تضيء المشهد وتوصلنا إلى فك عرى الحبكة الروائية، ومعرفة السر الذي يقيم في قلب عمله السردي. هذا ما نعثر عليه في رواياته: الطريق إلى بلحارث (1982)، وقت (1984)، مخلفات الزوابع الأخيرة (1988)، الحياة على ذمة الموت (1993)، عندما تشيخ الذئاب (2008)، غريب النهر (2011)، موسم الحوريات (2015). وهي، جميعاً، تنظر إلى الحدث المحوري فيها من زوايا مختلفة وعبر أصوات ساردة عديدة، لكي تكشف للقارئ عن السر الغامض الذي يقيم في أحشاء الحكاية. تلك تقنية سردية هيمنت على أعمال جمال ناجي القصصية والروائية، فهو مولع بالتعددية الصوتية، وبأسلوبيَّة زوايا النظر. وهذا ما غلب بصورة لافتة على أعماله الأخيرة، وقرَّب رواياته من الدراما التلفزيونية، وقد تحوَّلت بعض رواياته إلى مسلسلات تلفزيونية، ومن ضمنها عمله الروائي قبل الأخير "موسم الحوريات" الذي يركز عدسته على التطرف وأسبابه وصعود التيارات الإرهابية العنفية، وعلى رأسها داعش، متخذاً من بيئات ومناطق جغرافية متعددة مسرحاً لعمله الروائي.
ويدرك قارئ جمال ناجي، من إصراره على تكرار استعمال تقنية الأصوات وتقليبه الحدث عبر وجهات نظر ترى الحدث من زوايا مختلفة، أنه مغرم بالدراما، بالحكاية ذات الوجوه المضيئة والمعتمة في الوقت نفسه. ولا يميط اللثام عن هذا النوع من الحكايات الغامضة سوى الدراما التي تميل إلى الغموض وفك عرى الحبكة القصصية شيئاً فشيئاً، في سرد بوليسي هو أقرب إلى التحقيق منه إلى السرد الحداثيّ الذي يميل إلى تحليل الأعماق والتركيز على عذابات الكائن وضياعه في عالم يطحنه ويحوله إلى اسم غفل في الآلة الجهنمية للعصر اللاهث الراهن.
في عمله الأخير الذي صدر بعد وفاته، يتخذ جمال ناجي من تقنية توزيع السرد على عدد من الرواة الأسلوبيَّة التي يحكي من خلالها حكايته الأخيرة في عمل شاء له أن يحمل عنوان "ثلوج الليلة الأخيرة" (دار الشروق، عمان، 2019)، أو ربما "ليلة المعطف" بحسب ما تشاء الرواية نفسها، لأن كل شيء يحدث في تلك الليلة، قبلها أو بعدها، في نوع من التشويق الذي يحبس أنفاس القارئ، ويدفعه إلى تقليب الصفحات ليعرف إلى أين تفضي الحكاية، وما هي مصائر الشخصيات التي تسكنها. تلك هي طريقة جمال ناجي، الذي يمكن أن نطلق عليه وصف "الحَكَّاء" بجدارة، في بناء نصه، لأنه عوَّدنا في أعماله الروائية والقصصية جميعها أن نعيش قلق انتظار ما تسفر عنه حكاياته وما تؤول إليه شخصياته، وكيف تكشف الحبكة التي ينسج خيوطها بمهارة عن نفسها.
الروائي وشخصياته
في مقدمة روايته يراوغ الكاتب قارئه مدعياً أنه عثر على شخصيات روايته أو أنها عثرت عليه، وأنه قد يكون وقع في حبائلها: "شخوص هذه الرواية تسللوا إلى تعرجات ذاكرتي، عبثوا في مساحات روحي وأوراقي. كانوا نزلاء متجانسين، متعِبين إلى حد أن التمييز بينهم تطلَّب وضع علامات وإشارات على جباههم أو أجسادهم خشية الخلط بينهم. كلّ ما فعلته أنني أعدت ترتيب حكاياتهم، ومناكفاتهم، ومؤامراتهم. لا يمكنني الادعاء بأنني من خلقهم أو أوجدهم، فهم موجودون من دوني. ربما أنطقتهم، لكني لا أستبعد أن أكون وقعت في شرك أفكارهم التي أطلقوها في فضاء هذه الرواية. لا أستبعد أن أكون قد عشت في عوالمهم، وليس العكس، مثلما قد يخطر بالبال".
ويذكّر هذا التقديم بلعبة الإيهام والتغريب التي مارسها روائيون وكتاب على مر العصور، كما فعل الكاتب المسرحي الإيطالي لويجي بيرانديللو في "ست شخصيات تبحث عن مؤلف"، في محاولة لإيقاع القارئ في شرك التوهم بواقعية الشخصيات الورقية التي يسعى إلى معرفة دواخلها وسِير حياتها والعلاقات التي ينسجها الكاتب بين تلك الشخصيات، فتتكشَّف له خلال عملية القراءة.
يُسكن جمال ناجي بيته الروائيَّ في "ثلوج الليلة الأخيرة" ثلاث شخصيات، رجلين وامرأة، في الوقت الذي تبدو الشخصيات القليلة الأخرى نوعاً من تأثيث المشهد، ما يعطي مسحة واقعية، أو إيهاماً بالواقع الذي سعى الكاتب إلى إيقاع القارئ في شركه بدءاً من الصفحة الأولى للعمل، حين ادعى أن جُلَّ ما فعله هو أنه "أعاد ترتيب" حكايات تلك الشخصيات، أو أنه قد يكون واحداً منها: "لا أستبعد أن أكون قد عشت في عوالمهم". وكل واحدة من هذه الشخصيات تخفي سرّاً عن الأخرى، أو أنها تتلاعب بها وتضللها لغاية في نفسها. وعلى الرغم من أن العلاقة التي ينسجها الكاتب بين "عثمان" و"كايد" تظهرهما وكأنهما توأمان سياميَّان لا يستغني أحدهما عن الآخر، بل يبدو الواحد منهما مكملاً للآخر، إلا أنهما يتلاعبان ببعضهما وينصب كلٌّ منهما كميناً للآخر لمعرفة ماذا يخفي، وما هو السرّ الدفين الذي يحرص على عدم انكشافه. ومع أن سر العلاقة بين "كايد" و"سهاد" لا يتكشَّف سوى في الصفحات الأخيرة من العمل، إلا أننا نكتشف في النهاية أن الكاتب نصب لنا شركاً ليمرر من خلاله تأملات الشخصيات وفحصها للعيش والعلاقات البشرية ودخائل النفوس البشرية. إن شخصيات الرواية معنيَّة في سردها وحواراتها بإعادة فحص البديهيات وما تواضع عليه البشر من معنى للخير والشر، ووضع هذه المقولات تحت عدسة التأمل وإعادة النظر. قد يدور في ذهن القارئ، أثناء تتبع سرد الشخصيات الثلاث، وربطه سرد كل منها بسرد الأخرى، أن السرَّ يتعلق بعمليات تجارية غير مشروعة يقوم بها كايد، أو بالسبب الذي دفع "عثمان" لقتل "نديم سميران" (هل قتله فعلاً؟). لكن النهاية التي أفضت إليها الرواية تخالف توقعه، أو أنها على الأقل تستدير مبتعدة عن أفق توقعاته، من دون أن تشفي غليله في ما يتعلق بعمليات كايد غير المشروعة في المتاجرة باللوحات والقطع الأثرية، وكذلك في تأكيد الشكوك حول قتل "عثمان" الفنانَّ السوريّ "نديم سميران".
اختفاء ومكيدة
تدور حبكة الرواية حول تبادل الرجلين معطفيهما الشتويين في ليلة ثلجية عمّانيَّة سهرا فيها وأسرفا في الشرب كعادتهما في أحد المطاعم، لنكتشف من سرد الشخصيتين أن "عثمان" دبَّر المكيدة ليعرف فيما إذا كان لصديقه "كايد" صلة باختفاء مطلقته، إذ قام كل منهما بتفتيش جوَّال صديقه قبل أن يعيد كلّ منهما المعطف لصاحبه. وعلى الرغم من أن كل واحدة من الشخصيتين تبدي اهتمامها الشديد بما حدث "ليلة المعطف"، إلا أن السرد يتشعَّب مبتعداً عن حقيقة ما حدث في تلك الليلة، بغض النظر عما حدث في اليوم التالي لـ"ليلة المعطف" من حرد زوجة كايد لاكتشافها صورة سهاد في جيب معطف عثمان، واكتشاف عثمان أن كايد يخفي سهاد في بيت في جبل اللويبدة اشتراه زوج أمها، وصديق أبيها السابق. لكن الكاتب يضطر إلى الاستعانة بالصدف، التي لا يؤمن عثمان بوجودها، ليكشف لسهاد سرَّ علاقتها بكايد، والخديعة التي تعرضت لها على مدار سنوات طويلة من حياتها. فصديقة أمها الشاعرة "إكليل الجبل" هي خليلة كايد، وصديق أبيها الذي قاده إلى الإفلاس هو أبو قيس أخو كايد، وهو من تزوجته أمها بعد طلاقها من أبيها، وليس الرجل الأشقر الذي رحل مع أمها.
هكذا ينسج جمال ناجي حكايته لتتبدَّى لنا الحياة كخديعة كبرى نعيشها ونحن غافلون. في بؤرة هذا الاكتشاف الذي ينجلي لسهاد في مصادفة العثور على كايد وإكليل الجبل شبه عاريين، في البيت الذي ظنت أن كايد استأجره لها، تنحلّ خيوط الحبكة وتسفر الحكاية عن سرها الذي ظلّ معلّقاً إلى الصفحات الأخيرة.
إن جمال ناجي، في روايته الأخيرة التي رأت النور بعد وفاته، ولم يتسنَّ له مراجعتها قبل ذهابها إلى المطبعة، يثبت طاقته الخلاقة على توليف سرد بوليسي نفتقر إليه في الرواية العربية التي تركز كثيراً على السرديات الكبرى، مشيحة بوجهها عن السرديات الصغيرة، والمتع الجماليَّة التي تطلع من التشويق، وإفشاء السرّ الذي يتلفَّع بالغموض، وتعليق أنفاس القارئ، في سرد يتخذ من السرّ لحمته وسداه.