حتى بعد مرور 30 عاما، ما زال الغموض يحيط بالطريقة التي سقط فيها جدار برلين في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. هل كان الأمر بمثابة ردّة فعلٍ على زلّة لسان المتحدّث بإسم ألمانيا الشرقية، أو نتيجة قرار رسمي اتّخذته قيادة مذعورة قبل إجراء الاستعدادات اللازمة؟ هل كانت القوة المطلقة للأعداد البشرية ثم القدرة على الاختراق، أو بالأحرى روح العصر السائدة آنذاك هي التي كانت السبب؟
ما يجب التأكيد عليه، هو أن الأمر لم يكن كذلك في ما يتعلق بالانتهاك الأول للستارة الحديدية التي قسّمت أوروبا. فالمسألة بدأت في التاسع عشر من أغسطس (آب)، عندما اتّخذ حرس الحدود الهنغاري قراراً بالمراقبة فقط بدلاً من إطلاق النار، حين قام متنزّهون من دول أوروبية بقطع السياج الفاصل على الحدود الشرقية للبلاد.
وفي المقابل، لم يكن الستار الفولاذي كله مقطّعاً عندما سقط جدار برلين. فالاضطرابات كانت قيد النشوء ولا سيما لجهة إقالة تودور زيفكوف في بلغاريا، والثورة المخملية في ما كانت تُعرف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا، إضافةً إلى الانقلاب العنيف في رومانيا وإعدام زعيمها نيكولاي تشاوشيسكو. وبعد ذلك بعامين تفكّك الاتحاد السوفييتي المنهك آنذاك.
وكان سقوط الجدار هو المؤشّر على نهاية "حلف وارسو" وهزيمة الشيوعية في أوروبا، لتصبح ما سمّاها الرئيس الأميركي في حينه، جورج بوش الأب، "أوروبا واحدة، كاملة وحرّة".
لكن تلك العبارة تحوّلت إلى شعار تكرر استخدامه في الأشهر والسنوات التي تلت ذلك اليوم. منذ البداية، كانت معظم الدول التي رزحت تحت الستار الحديدي حريصة على الانضمام إلى كلّ من "حلف شمال الأطلسي" (ناتو) والاتحاد الأوروبي. ورأت في الحلف الأطلسي ضماناً لأمنها ضد ما اعتبرته تهديداً من الاتحاد السوفييتي، الدولة التي سيطرت على (دول أوروبا الشرقية) طيلة نصف قرن من الزمن. وتطلّعت تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي على أنه منارةٌ للازدهار والتضامن. واعتبرت أن الانضمام إلى الاتحاد من شأنه أن يؤكد صحة ما اعتبروه عودتهم إلى "أوروبا".
حدث ذلك إلى حد كبير. فمنذ العام 1999 حتى الآن، توسّع "الناتو" والاتحاد الأوروبي ليشملا دول البلطيق الثلاث وجميع دول "حلف وارسو" السابق، وعدداً من الجمهوريات اليوغوسلافية السابقة. ولم يكن هناك تقاطع تام بين "الناتو" والاتحاد الأوروبي، فقد انضمّت ألبانيا وجمهورية "الجبل الأسود" إلى الحلف، لكنهما لم تنضمّا بعد إلى الاتحاد الأوروبي. ولم تخلُ التوسعات المتقطّعة من النزاعات والتأخير. لكن النتيجة هي أن الخارطة السياسية لأوروبا قد تغيرت بشكل يفوق التصوّر.
لكن ما إذا كانت أوروبا قد أصبحت نتيجة لذلك "كاملة وحرة"، فتلك مسألة أخرى، مع ميل "الكل" ربما، إلى أن يكونوا أكثر انفتاحاً على النزاع منه على "الحرية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أحد أسباب النزاع هو أنه مع كل توسيع، تم رسم خط جديد بدا بالنسبة إلى أولئك الذين هم على الجانب "الخاطىء" منه، شيئاً لا يمكن اختراقه كالستار الحديدي الذي قسّم بين مفهومين تمثّلا في: "هم" و"نحن". وقد أوجد تقدّم حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي نحو الشرق مخاطر جديدة في ما يتعلق باحتمال المواجهة مع روسيا.
وكان الانقسام الأكثر إثارة للجدل قائماً داخل الاتحاد الأوروبي نفسه، حيث شعر كثير من "الأوروبيين الجدد" - وهو مصطلح يكرهونه - بأنهم ما زالوا بعد أكثر من 15 عاماً من العضوية الكاملة، يُعامَلون على أنهم أعضاء من الدرجة الثانية.
قد لا يكونون مخطئين تماما. فعلى الرغم من الآمال الراسخة التي وضعوها عندما انضموا إلى التقارب الاقتصادي، فإنهم ما زالوا متخلّفين عن "أوروبا القديمة" في مستويات المعيشة، ولجهة تباطوء النمو الذي سجّل في البداية انطلاقةً كانت أشبه بمعجزة. وبرزت في المقابل، شكوك لدى البعض من معاملتهم كأنه مستودعاتٍ لليد العاملة الرخيصة، في وقتٍ عملت شركات متعدّدة الجنسية على خداعهم من خلال تزويدهم ببضائع ذات قيمة أدنى من تلك المورّدة إلى "أوروبا القديمة".
ولا تزال الفجوة الاقتصادية قائمةً على الرغم من أن الآثار شبه المأسوية لأزمة العامين 2008-2009 قد بدأت تتلاشى أخيرا، حتى في لاتفيا التي تضررت بشدة، حيث بدأت الشركات الجديدة والخدمات تزدهر. ومع ذلك، قد تكون الاختلافات الشديدة في الجوانب الاجتماعية والسياسية أعمق وأصعب في التحول القائم.
وبعدما كانت بولندا والمجر نجمتي الإصلاح السياسي والاقتصادي على أثر انهيار الشيوعية، تشعر الدولتان بأن بروكسل قد دانتهما ظلماً بسبب محاولتهما التمسك بكيانهما. وتعتبر العاصمتان أن انتقاد أنظمتهما السياسية والقضائية لا مبرر له، وأن الإصرار على وجوب قبولهما استضافة نسبة صغيرة جداً من اللاجئين والمهاجرين غير الأوروبيين، هو أمر غير مقبول.
وينبع بعض هذه التوترات من حقيقة أن دول شرق أوروبا ووسطها، تميل إلى أن تكون أكثر تحفّظاً في الجانب الاجتماعي من معظم دول "أوروبا القديمة". وفي حال هنغاريا، تولّد لديها شعور بالاستياء من أن الاتحاد الأوروبي تركها بلا حماية خلال أزمة اللاجئين في العام 2015. ويرى مواطنوها أن حكومتهم تتمتع بسلطاتٍ ديمقراطية وسيادية كاملة، وأن على الاتحاد الأوروبي ألا يتدخل في أمور يعتبرون أنها شأن داخلي يخصّها.
لكن المشكلة ازدادت عمقا. فعندما انضمت بلدان وسط وشرق أوروبا إلى حلف "الناتو" وخصوصاً إلى الاتحاد الأوروبي، إنما قامت بذلك على أمل أن تحمي عضويتها وتوطّد سيادتها الناشئة حديثاً أو تلك التي أعيد تأسيسها، وهو ما لا شك فيه. لكن قيام السوق المشتركة التي سبقت الاتحاد الأوروبي، كان مختلفاً تماما. فقد اشترطت قبولاً بالسيادة الجماعية كضمانٍ للسلام في المستقبل. وهذا هو الاختلاف الأساسي الذي يكمن وراء كثير من سوء الفهم الحاصل اليوم.
والجانب الأكثر إثارة للجدل هو أن عدداً من "الأوروبيين الجدد" ولا سيما منهم هنغاريا، يشعرون أيضاً بأنه كان على "أوروبا القديمة" أن تقوم بالمزيد من أجل استيعابهم، وألا يكونوا هم وحدهم المطلوب منهم التكيّف. وفي الواقع، إن انضمامهم قد غيّر كلاً من الاتحاد الأوروبي وحلف "الناتو" بطرق قد لا يتعرفون عليها. فانضمامهم لم يؤدِّ إلى تحويل الأولويات الأمنية نحو الشمال والشرق (والابتعاد عن البلقان والبحر الأبيض المتوسط) فحسب، بل ساهم في تعقيد علاقات الاتحاد الأوروبي مع روسيا، بحيث حمل "الأوروبيون الجدد" معهم مخاوفهم القديمة ومشاحناتهم.
وبعد ثلاثة عقود من سقوط جدار برلين، يقف الاتحاد الأوروبي الموسّع عند مفترق طرق، فهل الفجوة الجديدة بين الشرق والغرب مستمرة؟ وهل يمكن أن يؤدي ذلك إلى اتحاد أوروبي داخلي وخارجي كما رأى إيمانويل ماكرون بعد فترة وجيزة من توليه منصب الرئاسة الفرنسية؟ أم أن التوقعات في كلا الجانبين، كانت ببساطة مرتفعة للغاية، وأن التحالف سيتطلب وقتاً أطول؟
ما ينبغي الإشارة إليه هو أن دول "أوروبا الجديدة" معادية لاتحاد أوروبي ذي سرعتين. فإذا كان نصفا الاتحاد سينموان معا، فلا يمكن اعتبار أن الأمر مفروغ منه. وبمجرد أن يثقوا تماماً بسيادتهم المستعادة، هل سيكون "الأوروبيون الجدد" على استعداد للتضحية قليلاً من أجل التضامن داخل كتلة الاتحاد الأوروبي؟ بعبارة أخرى، هل يكون الموقف الدفاعي الراهن الذي تتّخذه تحديداً كلٌّ من بولندا وهنغاريا، مجرد مرحلة؟ وهل يمكن للجيل الجديد، أن يلحق، على سبيل المثال، بركب أيرلندا في تحوّلها السريع من وضع محافظٍ اجتماعياً إلى الليبرالية؟ يجب عدم استبعاد ذلك.
السؤال الكبير الآخر هو كيف سيستقر "الأوروبيون الجدد" تماماً في قارتهم. ففي اندفاعهم للانضمام إلى حلف "الناتو"، كانوا يثقون بأوروبا أقل من الولايات المتحدة. وأصبحوا مع المملكة المتحدة في ما بعد، أكثر أعضاء الاتحاد الأوروبي "أطلسيةً" لجهة التطلع نحو الولايات المتحدة، وأكثر كرهاً لمبدأ الدفاع الأوروبي المشترك. قد يتغير ذلك بسبب الالتزام المشكوك فيه من جانب دونالد ترمب بالتحالف عبر المحيط الأطلسي، وأيضاً بسبب الخروج المحتمل لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وتبدو دول أوروبا الشرقية والوسطى أقل تطلعاً نحو المحيط الأطلسي منه إلى جيرانها الأوروبيين والمنطقة التي يعيشون فيها. وسطّرت مجموعة "فيزغراد" التي تضمّ تشيكيا والمجر وبولندا وسلوفاكيا داخل الاتحاد الأوروبي فصلاً جديداً من البقاء، فيما تعيد كلّ من بولندا وليتوانيا وأوكرانيا إحياء الروابط القديمة. أما علاقات لاتفيا بالسويد فآخذة في الازدهار، وكذلك الروابط الفنلندية الإستونية التي عادت في وقت مبكر. فهل يمكن أن نرى استعادة شيء يشبه "الرابطة الهانزية" (اتحاد تجاري ودفاعي للنقابات التجارية ومدن شمال غرب أوروبا ووسطها)؟
الإشارات هذه كلّها تبعث على الأمل، فهي تدل على أن استياء أوروبا الشرقية والوسطى قد يكون مرحلة عابرة، وأن توقعات التسعينيات على كلا الجانبين، كانت ببساطة مرتفعة للغاية. فمعظم "الأوروبيين الجدد" عاشوا على مضض تحت أنواع مختلفة من القمع الشيوعي لنحو نصف قرن. وقد لا تكون فترة الثلاثين عاماً بعد سقوط جدار برلين كافيةً لوضع هذه الإرث جانبا. ويبقى أن ننتظر تقييماً آخر بعد عقد من الزمن.
© The Independent