بينما تموج شوارع بيروت بعشرات الآلاف من المتظاهرين للمطالبة بتغييرات سياسية واجتماعية كان مئات اللبنانيين يقفون أمام "التياترو الكبير" يستمتعون بالموسيقى ويحلقون بأمانيهم عالياً من أجل إعادة الحياة إلى الصرح الفني المغلق منذ سنوات.
وأمام المبنى القائم في شارع "المير بشير" بوسط بيروت بين مبنى "اللعازارية" وساحة رياض الصلح، جلست عازفتا التشيلو جنى سمعان ونايري غازاريان فوق مسرح خشبي صغير تشكَّل من صناديق الفاكهة والخُضر الفارغة تعزفان مقطوعات كلاسيكية للألماني كاسبار كومير والنمساوي فرانز بيتر شوبرت.
بدأت العازفتان الحفل بمقدمة (أوبرا عايدا) الموسيقية "كرسالة نريد تأكيدها أن لبنان بلد الثقافة ولا بد أن يكون لديه دار أوبرا رسمية جامعة لكل اللبنانيين" كما قالت نايري غازاريان لرويترز.
وأضافت "لم أكن أعرف أن في لبنان صرحاً مسرحياً مهماً مثل "التياترو الكبير"، لقد عزفت في دور أوبرا ومسارح مهمة آخرها أوبرا أرمينيا، لكنني لم أتخيل يوماً أن أعزف في الشارع مجاناً أمام "التياترو الكبير" في بيروت ويشاهدني مئات المحتجين ويصفقون لي من قلوبهم".
الحفل الذي نظمته جمعية (المفكرة القانونية) غير الحكومية، أعاد طرح أسئلة عالقة من دون إجابة منذ سنوات عن "التياترو الكبير" الذي أغُلق مع بداية الحرب الأهلية عام 1975، ومفهوم المساحات العامة الثقافية المجانية التي باتت شبه معدومة في لبنان خلال السنوات القليلة الماضية.
يعود تاريخ "التياترو الكبير" إلى أواخر العشرينيات من القرن الماضي حين تحول المكان من مستودع للزوارق إلى مسرح كبير بمبادرة فردية من جاك ثابت، وصمم المبنى آنذاك المهندس يوسف بك أفتيموس أحد أهم كبار المعماريين مطلع القرن العشرين.
منذ 1929
صمم أفتيموس المسرح بشكل كلاسيكي لخدمة عروض فرق الأوبرا التي كانت تأتي من أوروبا، وتميز ببهو فسيح يتفرع منه درجان عريضان يؤديان إلى مقصوراته الفخمة وغرف الممثلين الفسيحة وبدأت العروض في 1929.
وبحلول عام 1950 تحول من مسرح إلى صالة سينما حتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، وأصبح ساحة للمقاتلين بدلاً من الفنانين والمثقفين.
وبعد انتهاء الحرب كانت هناك محاولات لترميمه وإعادة افتتاحه أمام الجمهور بإشراف وزارة الثقافة، بمبادرة من وزير الثقافة السابق غسان سلامة وفنانين مثل الممثلة نضال الأشقر والمخرج الراحل نبيل الأظن، لكن المحاولات باءت بالفشل لكونه مملوكاً من شركة خاصة.
وفي 2011 أعلنت شركة "سوليدير" المالكة والمشغلة لوسط بيروت، أنها تريد تحويل المبنى إلى "بوتيك اوتيل"، لكنه بقي على حاله مهملاً متروكاً للزمن ومسيجاً مع لافتات حوله كتب عليها "ممنوع الدخول"، إلى أن دخله المتظاهرون في لبنان قبل أسبوعين، معتبرين أنه مبنى تراثي ويجب أن يُفتح للشعب.
ولا تزال أجيال الثلاثينيات والأربعينيات تتذكر صولات عمالقة الغناء والتمثيل داخل "التياترو" أمثال أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وصباح وكذلك أمسيات شعرية لبشارة الخوري الملقب "بالأخطل الصغير".
هو والحرب
صمت "التياترو" لم يُخترق سوى مرتين بعد الحرب، الأولى عام 1997 حين قدم المخرج المسرحي الفرنسي جيل زافيل عرضاً بعنوان (تحية إلى التياترو الكبير) بالاشتراك مع ممثلين لبنانيين، محاولاً تحفيز الجمهور اللبناني على استعادة دوره الثقافي. أما الثانية فكانت عام 1999 حين قدم المخرج المسرحي الفرنسي اللبناني نبيل الأظن مسرحية غير معروفة للشاعر جورج شحادة بعنوان (لوعة حب) وذلك في الذكرى العاشرة لوفاة شحادة وحضرها سياسيون ودبلوماسيون وفنانون.
ويؤكد المهندس والمؤرخ المعماري رهيف فياض أن "التياترو الكبير مصنف مبنى تراثياً وفق وثائق سوليدير وكتاب (انبعاث بيروت) للكاتب أغنوس كيفين".
وأضاف "استعادة التياترو قصة رأي عام، والشعب وحده قادر على إعادته إلى وظيفته الحقيقية كواحد من أهم دور الأوبرا في العالم".
ويسترجع محمد (75 سنة) الذي حضر الحفل أمس الأحد أمام التياترو ذكرياته مع المكان قائلاً، "كان التياترو في شبابنا منارة وهو يمثل لجيلنا ذاكرة بيروت ما قبل الحرب ورومانسيتها، واليوم أتيت لأستعيد مدينتي من خلال هذا الحفل".
وقال المحامي كريم نمور الذي قدم الحفل وأسهم في تنظيمه ضمن فريق عمل (المفكرة القانونية) لرويترز، "الهدف من هذه الفعالية إعادة مفهوم المساحات العامة والثقافية على خريطة النقاشات العامة ودورها في تطوير المدن وإحيائها".
دور "سوليدير"
وأضاف "في المخطط الذي رسمته الشركة المالكة للتياترو بأن يصبح فندقاً ليذوب بالهوية "النيوليبرالية" للعمران الذي شهدته بيروت بعد الحرب، يفكك هوية هذا الصرح المصنف تراثياً ليتهاوى دوره الأساسي بأن يكون جامعاً ومكاناً للقاء والحوار الثقافي، وهو ما لا يشبه طبيعة بيروت ولا تاريخها".
ويشرح نمور "فكرتنا من هذا الحفل أن نعطي بعض المعالم الأساسية في المدينة هوية جديدة تتماهى مع الثورة أو الانتفاضة، هوية شعبية ليتحول التياترو إلى مركز ثقافي مجاني متاح لجميع المواطنين".
وتساءل "ما قيمة المدينة في ظل تغييب إرثها الثقافي ومساحاتها الثقافية؟ وكيف يمكن لسكان المدينة أن يستعيدوا تلك المساحات وأن يدافعوا عن مبان وأماكن باتت جزءاً من ذاكرتهم وحياتهم الجماعية؟ وهل لمالك العقار أن يحدد كيفية استخدام عقاره بمعزل عن بيئته وتاريخ تلك البيئة، فيهدم ويشيد المباني عليه متى يشاء"؟