في ذكرى حفر قناة السويس المئة والخمسين، تحتفل السلطات المصرية بذلك الممر الملاحي الدولي الذي يمثل "شريان للحياة" بالنسبة إليها والعالم، بشكل هادئ على عكس المآدب الفاخرة والاحتفالات الضخمة التي واكبت افتتاحها في العام 1869، في عهد الخديوي إسماعيل، حيث بلغت تكلفة حفل الافتتاح نحو 2 مليون و400 ألف جنيه في حينه، وفق الروايات التاريخية للحدث.
مظاهر احتفال "خجولة"
واليوم وفي ذكرى افتتاح القناة، التي تعد مصدرا رئيسا لدخل مصر من العملات الصعبة وتمر عبرها 10% من التجارة الدولية، لم تبدِ السلطات أجواء صاخبة من الاحتفال بذكراها على ما كان قبل 150 عاما، إذ لا ينتظر أن تحاط هذه الذكرى بكثير من الضجيج.
وبحسب السلطات المصرية والهيئة العامة لقناة السويس المسؤولة عن إدارة القناة، تم إصدار طابع بريد يحمل صورة "فرديناند ديليسبس"، وهو دبلوماسي ومقاول فرنسي كان وراء حفر قناة السويس.
يأتي ذلك في وقت أعلنت فيه مكتبة الإسكندرية عزمها إقامة ندوة في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) تحت عنوان "قناة السويس مكان الذكريات".
كما من المنتظر أن يُفتتح في مدينة الإسماعيلية متحف للقناة داخل مبناها التاريخي. ولكن أعمال الإنشاءات لا تزال جارية فيه ويتوقع أن يفتتح مطلع العام المقبل.
ووفق الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس الحالي، فإنه بدلا من التركيز على تاريخ القناة، تفضل السلطات المصرية الحديث عن مستوى الأداء المرتفع للقناة، ذلك الممر المائي الممتد على مسافة 193 كيلومترا والرابط بين البحرين الأحمر والمتوسط، معتبراً إياه "شريان للحياة لمصر وللعالم كله".
ووفق ما نقلت وكالة "أ.ف.ب."، عن ربيع، فإنه وإن كان يُقّر بـ"فضل" الدبلوماسي الفرنسي فرديناند ديليسبس في دعم "فكرة" حفر قناة السويس ما بين عامي 1859 و1859، فإنه يؤكد أنها تدلل على "عبقرية شعب مصر" الذي نفذها. وقال "ربع الشعب المصري (آنذاك) شارك في حفر قناة السويس. وحفرها نحو مليون مواطن وتعداد الشعب وقتها كان 4.5 مليون نسمة".
وبحسب ربيع فإن "ما بين 100 إلى 120 ألف مصري استشهدوا في حفر القناة". ويقول الخبراء إن معظم الضحايا الذين سقطوا أثناء حفر القناة توفوا لإصابتهم بأوبئة وأنه يصعب تقدير العدد.
ويعتقد الفريق أسامة ربيع أن "حفر قناة بطول 162 كيلومترا في عشر سنوات بأدوات بدائية كان معجزة بكل المقاييس". وأضاف "هذا فخر لنا لأن معناه أن الشعب المصري عندما يصرّ على تنفيذ مهمة فإنه ينفذها على أكمل وجه".
ولا يتوقف رئيس هيئة القناة طويلا أمام التاريخ ويركز على حفر "قناة السويس الجديدة" في عام 2014-2015 وهي بمثابة فرع جديد للقناة تم الانتهاء منه خلال عام واحد بتعليمات من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ولا يتردد رئيس هيئة القناة في عرض الفوائد التي نتجت عن إنشاء الفرع الجديد، مشيرا إلى أن زمن عبور القناة انخفض إلى النصف، من 22 ساعة إلى 11 ساعة، كما أن عدد السفن التي تعبر يوميا ارتفع ليبلغ بين 60 و65 سفينة في المتوسط مقابل من 40 إلى 45 في المتوسط سابقا.
وساعد توسيع القناة في عبور حاملات الحاويات، التي تمثل نصف السفن التي تمر من هذا الممر المائي، ذات الحمولات الكبيرة. كما أصبح بوسع ناقلات نفط عملاقة حمولتها 200 ألف طن عبور القناة.
وعن تأمين القناة، يشدد الفريق ربيع على أنها "مؤمنة تأمينا ممتازا" من قبل الجيش المصري. ويوضح أن "القوات الجوية والقوات البحرية وقوات الدفاع الجوي تتولى تنفيذ خطة تأمين محكمة"، موضحا أن العمليات التي يقوم بها الجيش في سيناء ضد الفرع المصري لتنظيم (داعش) "لم تؤثر على قناة السويس".
محاولات عدة لشق القناة
على الرغم من أن فكرة إنشاء قناة تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط لم تكن وليدة العصر الحديث، إذ تعود جذورها الأولى ومحاولات إتمامها لعمر الدولة المصرية في عهد الفراعنة.
ففي العام 1874 قبل الميلاد، تمكن "سنوسرت الثالث"، المعروف كأحد ملوك الأسرة الثانية عشر في عهد الفراعنة، من شق أول قناة لربط البحر الأبيض بالأحمر عن طريق نهر النيل وفروعه، إلا أن العمل لم يكتب له الاستمرار، وأهمل، وردمت القناة وأعيد افتتاحها على مدار العقود التالية، كان آخرهم الخليفة هارون الرشيد، ومن بعده ردموها أيضا على بساطتها وحجمها الصغير وبدائيتها.
وفي عهد الحملة الفرنسية على مصر في العام 1789، راودت قائدها العسكري، نابليون بونابرت، وفق المؤرخ المصري عاصم الدسوقي، فكرة إعادة حفر القناة بشكل أكثر ضخامة وحداثة، وبعد أن قاد من القاهرة مجموعة مهندسين لمعاينة الموقع الأفضل، أبلغه رئيسهم "جاك ماري لوبير" أن الفكرة لا يمكن تنفيذها بعد اكتشاف أن مستوى البحر الأحمر أعلى من مستوى البحر المتوسط، وهو ما يعني أن "مصر كلها ستغرق بمياه البحرين لو تم حفرها".
ولم تنتهِ الفكرة عند هذا الحد، ففي العام 1854 عاد الدبلوماسي والمعماري الفرنسي، فرديناند ديليسبس، لحاكم البلاد آنذاك، سعيد باشا، الذي اقتنع بالفكرة، وأصدر فرمانا بحفر قناة السويس في نوفمبر (تشرين الثاني) من ذات العام، مقابل امتياز مدته 99 عاما من تاريخ تدشينها، على أن تحصل الحكومة المصرية طوال تلك المدة على 15% من صافي الأرباح.
وفي الخامس عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1869، افتتح الخديوي إسماعيل، بحضور العشرات من الملوك والأمراء ومئات الأجانب حول العالم، القناة الجديدة في حدث كان الأبرز على المستوى الدولي في حينه لما واكبه من تكاليف واستعدادات باهظة لاستقبال الضيوف الأجانب، وعلى رأسهم الإمبراطورة أوجيني زوجة إمبراطور فرنسا.
شاهد على التاريخ الحديث
ومن أجواء الاحتفال الصاخبة، إلى سنوات المعارك والاضطراب التي شهدتها مصر والمنطقة منذ منتصف القرن العشرين، بقيت قناة السويس في صلب التطورات والأحداث وشاهدا على مفترقات طرقه التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط.
وعلى مدار العقود الأخيرة، كانت قناة السويس في قلب ثلاث حروب عربية- إسرائيلية، بعد أن أممها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في 26 يوليو (تموز) عام 1956، لتؤول ملكيتها وإداراتها للدولة المصرية بعد أن ظلت تخدم المصالح الفرنسية والبريطانية والأميركية لعقود.
ومنذ ذلك التاريخ، بقيت القناة على خط الجبهة المصرية- الإسرائيلية في ثلاث حروب (1956، 1967، 1973)، وأغلقت لمدة 8 سنوات بعد حرب 1967، ثم نزعت الألغام منها وأعاد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات افتتاحها في العام 1975 عقب توقيعه اتفاقية ثانية لفض الاشتباك مع إسرائيل، وقبل اتفاقية السلام بين البلدين في العام 1978.
وبحسب سفير فرنسا في مصر ستيفان روماتيه، فإن قناة السويس "مغامرة فرنسية- مصرية"، معتبراً أن تاريخ القناة الأهم "بالنسبة إلى المصريين هو العام 1956"، أما بالنسبة إلى الفرنسيين "فهو العام 1869".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونظم في باريس في العام 2018 معرضا تحت عنوان "ملحمة قناة السويس"، ولكنه لم يعبر البحر المتوسط.
ويقول الدبلوماسي الفرنسي "كلٌ يكتب التاريخ بطريقته"، معرباً عن اعتقاده بأن التدخل العسكري لبريطانيا وفرنسا وإسرائيل عام 1956 بعد تأميم قناة السويس "أصبح من الماضي".
ويقول ارنو راميار دوفوتانييه من جمعية ذكرى فرديناند ديليسبس وقناة السويس إن المصريين "يستقبلون (أعضاء) الجمعية بطريقة محترمة". ولكن الموضوع يظل "حساسا بعض الشيء"، إذ إن "الأمور سارت بشكل سيئ عام 1956"، وفقا للرجل الذي يمثل الجمعية المعنية بالحفاظ على ذكرى شركة قناة السويس القديمة التي تم تأميمها.
وظلت قناة السويس على حالها بعد أن أعيد افتتاحها عام 1975، إلى أن شهدت تطوراً لافتاً حين دفع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عام 2014 باتجاه حفر "قناة السويس الجديدة"، وهي فرع جديد موازٍ للقناة الحالية يبلغ طوله 72 كيلومترا.
وأتاح هذا الفرع الجديد أن تمر قافلتان في نفس الوقت في قناة السويس، إحداها من الشمال وأخرى من الجنوب، وأدى إلى تقليل المدة الزمنية للعبور. وفي أغسطس (آب) أعلنت هيئة قناة السويس أن عائدات السنة المالية 2018- 2019 بلغت 5.9 مليار دولار، أي أنها حققت زيادة بنسبة 5.4% مقارنة بالعام السابق. وتأمل السلطات المصرية في أن تصل إيرادات القناة 13.2 مليار دولار بحلول العام 2023.
أرقام وحقائق
عندما تم افتتاح القناة للمرة الأولى في عام 1869، كان طولها 164 كيلومتراً (102 ميل) وعمقها 8 أمتار (26 قدماً). وكان يمكن أن تستقبل سفنا بسعة 5000 طن وعمق إلى 6.7 متر، والتي شكلت الجزء الأكبر من أساطيل العالم في ذلك الوقت، وفقا لهيئة قناة السويس.
وفي عام 1887 تم تحديث القناة للسماح بالملاحة أثناء الليل، ما ضاعف من قدرتها. وحتى خمسينيات القرن الماضي لم ترَ قناة السويس توسعة أو تعميقا إلا بعد مطالب شركات الشحن.
وعندما قام الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتأميم الممر المائي في العام 1956، كان طوله قد وصل إلى 175 كيلومتراً وعمقه 14 متراً، ويمكنه استقبال ناقلات بسعة 30.000 طن بعمق 10.7 متر.
وأخيرا، في العام 2015 شهدت القناة المصرية حركة توسعة كبيرة مدّت طول المجرى الملاحي إلى 193.30 كيلومتراً وزادت عمقه إلى 24 متراً، ما يعني إمكانيته استقبال ناقلات عملاقة بسعة 240.000 طن وبعمق يصل إلى 20.1 متر.
وفي العام 2019، تشهد القناة مرور نحو 50 سفينة يومياً، مقارنةً بثلاث سفن في عام 1869، ومن المتوقع أن تتضاعف حركة المرور تقريباً بحلول عام 2023، خصوصا في ظل وجود اتجاهين للمرور عبر الممر ما يساعد على تقليل أوقات الانتظار، حسبما تقول الهيئة.
وتعتبر قناة السويس أسرع طريق بحرا لنقل غالبية النفط من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي. فالرحلة بين الموانئ في الخليج ولندن، على سبيل المثال، تتقلص إلى النصف تقريباً عند المرور عبر قناة السويس، مقارنةً بطريق رأس الرجاء الصالح عبر الطرف الجنوبي للقارة الأفريقية.