في الوقت الذي تستعد فيه الحكومة العراقية للانتهاء من إعداد مشروع موازنة العام المالي المقبل، تتواصل الاحتجاجات في الشارع العراقي التي تطالب بوضع حلول للأزمات الاقتصادية التي تحاصر غالبية الأسر العراقية في الوقت الحالي.
وتعتزم الحكومة إرسال مشروع قانون موازنة 2020 إلى مجلس النواب خلال الشهر الحالي، فيما تتوقع أن يُصوّت عليه خلال الشهر المقبل، حيث اقتربت اللجان الفنية في وزارتي المالية والتخطيط من الانتهاء من تعديلاتها وإضافاتها النهائية، بما فيها الإضافات المالية التي ترتبت على "الحزم الإصلاحية" التي أطلقتها الحكومة العراقية.
وتشير البيانات إلى أن حجم الموازنة الاتحادية للعام المقبل يتراوح بين 130 إلى 140 تريليون دينار عراقي (109.06 إلى 117.44 مليار دولار)، وبسعر بيع النفط عند مستوى 56 دولارا للبرميل الواحد، كما تشير إلى أن الموازنة الاستثمارية حُدّدت بنحو 30 تريليون دينار (25.16 مليار دولار)، والمتبقي سيكون ضمن الموازنة التشغيلية وسداد الديوان الخارجية والداخلية والمستلزمات الأخرى.
المظاهرات وخسائر كبيرة في جميع القطاعات
لكن يشهد العراق منذ عدة أسابيع تظاهرات كبيرة في العديد من المدن. وتعتبر هذه التظاهرات أحد أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي الذي يعاني مشاكل عديدة، نظراً لظروف عدم الاستقرار السياسي والأمني التي تواجهها البلاد منذ سنوات، والتي تعيش حالة حرب في مواجهة تنظيم "داعش" منذ نحو خمس سنوات.
وقد سيطر التنظيم، في بعض الفترات، على مساحة كبيرة من الأراضي العراقية، ووضع قبضته على العديد من الآبار النفطية. وبالنسبة إلى الاحتجاجات الأخيرة، فقد تسببت بدورها في إصابة بعض القطاعات الاقتصادية بحالة اضطراب، الأمر الذي يمثل عاملاً مزعزعاً للاستقرار الاقتصادي الكلي في البلاد، ومهدداً كذلك لموقع العراق كمنتج ومصدّر رئيس للنفط في العالم.
وعلى خلفية الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت عدداً من المدن أخيرا، أعلنت الحكومة العراقية تكبدها خسائر في العديد من القطاعات، التي شملت كلاً من الطرق والموانئ والقطاع المصرفي وسوق الصرف ومؤسسات القطاع الخاص، وغيرها من القطاعات، الأمر الذي يشير إلى الأضرار التي يمكن أن تلحق بالعراق واقتصاده في حال استمرار الاحتجاجات لفترات أطول، واتساعها سواء من حيث المواقع التي تصل إليها أو القطاعات الاقتصادية التي تتضرر بسببها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أدى تعرض البنك المركزي لإغلاق أبوابه في بعض الأيام خلال الفترة الماضية، بسبب وصول التظاهرات إلى المناطق القريبة منه، إلى عدم قيامه بتنفيذ بعض العمليات المتعلقة ببيع الدولار لشركات الصرافة والبنوك، ضمن برنامج "الحفاظ على سعر الدينار"، حيث يبيع البنك يومياً ما يتراوح بين 160 مليون و180 مليون دولار لتلك الجهات.
ومن شأن عدم انتظام قيام البنك بهذا الدور أن يفضي في نهاية الأمر إلى شحٍ في السيولة النقدية من الدولار في أسواق الصرف، الأمر الذي يتسبب في ارتفاع سعر صرف الدولار، وتدهور قيمة العملة المحلية (الدينار).
أزمة صرف مستمرة وخسائر عنيفة للدينار
وشهدت الأيام العشرة الأولى من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي ارتفاعاً في سعر الدولار من 1.183 دينار إلى 1.190 دينار، بنسبة تصل إلى نحو 0.5%. وعلى الرغم من أن هذه النسبة تعد صغيرة إلى حد ما، لكن استمرار الأزمة على حالها، وتكرار عمليات إغلاق البنك المركزي، من شأنه أن يتسبب في المزيد من الارتفاعات وحدوث أزمة كبيرة في سوق الصرف، الأمر الذي ينتقل بدوره إلى أسواق السلع الضرورية، لا سيما وأن العراق يعتمد بنسبة 90% على الاستيراد من الخارج لسد احتياجاته من العديد من السلع الضرورية.
وسوف تتفاقم هذه الأزمة أيضاً إذا أضيفت إليها مشكلات أخرى تتعلق بتعرض الموانئ العراقية للتوقف عن العمل بسبب التظاهرات.
وأشار مسؤولون حكوميون إلى أن بعض الموانئ تعرضت لمثل هذه الأزمة خلال الأيام الماضية، وقدرت خسائر العراق من إغلاق ميناء أم قصر فقط بنحو 6 مليارات دولار.
وتزامناً مع ذلك، تشير تقديرات الخبراء إلى أن القطاع الخاص تأثر بشكل أكبر بسبب التظاهرات، إذ بجانب تأثر أنشطته سلباً بمشكلات قطع الطرق والجسور، فإنه تأثر كذلك بقيام الحكومة بقطع خدمات الإنترنت إلى جانب حظر التجول، ولا سيما في المواقع القريبة من ساحات التظاهر في بغداد والمدن الأخرى.
النفط يسيطر على 61% من الناتج المحلي
وذكرت دراسة حديثة أعدها مركز "المستقبل" للأبحاث والدراسات المتقدمة، أن القطاع النفطي هو القطاع الاقتصادي الأهم في العراق، حيث تشير تقديرات البنك المركزي العراقي إلى أن هذا القطاع يسهم بأكثر من 61% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، كما يسهم القطاع بما يناهز 85% من الإيرادات العامة للدولة، وهو يعد كذلك المصدر الرئيس للعملات الأجنبية التي ترد إلى البلاد، بنسبة تتجاوز 95%.
فضلاً عن ذلك، فإن الحكومة تُعوِّل عليه لتمويل موازنتها العامة، وللتخلص من أزمة الديون الحكومية التي وصلت إلى ما يناهز 49% من الناتج المحلي الإجمالي، أو ما قيمته 110 مليارات دولار عام 2018، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. هذا بجانب أزمة الديون الأجنبية، التي تصل، في بعض التقديرات، إلى 48 مليار دولار.
وتوضح هذه المؤشرات المكانة المهمة التي يحتلها القطاع النفطي في الاقتصاد العراقي، كما أنها تشير، من زاوية أخرى، إلى حجم الأزمة التي يمكن أن يتعرض لها العراق واقتصاده في حال اتساع التظاهرات وتسببها في مشكلات تزعزع استقرار القطاع.
وفي هذا الصدد، فإن التظاهرات التي يشهدها العراق ليست ببعيدة بالفعل عن القطاع النفطي، وقد أعلن مسؤول بقطاع النفط، في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أن المتظاهرين قاموا بالفعل بقطع الطرق والجسور ما أدى إلى منع وصول نحو 90 ألف برميل من النفط الخام إلى موانئ التصدير، وتركها عالقة في أحد حقول شمال العراق.
المتظاهرون يستخدمون النفط كورقة ضغط على الحكومة
الدراسة أشارت إلى أن وعي المتظاهرين بأهمية قطاع النفط عادة ما يدفعهم إلى استخدامه كورقة ضغط على الحكومة. وقد حدث ذلك في العديد من المناسبات السابقة، كما كان الحال في شهر يوليو (تموز) من عام 2018، عندما تظاهر المحتجون بالقرب من عدة حقول نفطية، كان من بينها حقل "الزبير" (محافظة البصرة جنوب العراق)، والذي ينتج نحو نصف مليون برميل يومياً.
وبجانب هذا وذاك، فإن تعرض قطاع النفط لعدم انتظام في الإمدادات بسبب أي اتساع محتمل في التظاهرات مستقبلاً، من شأنه أن يُفقِد العراق مكانته كأحد أهم منتجي النفط الخام في العالم، لا سيما أن إنتاجه وصل إلى 4.7 مليون برميل يومياً طبقاً لبيانات شهر سبتمبر (أيلول) الماضي الصادرة عن منظمة "أوبك"، محتلا بذلك المرتبة الثانية وفق حجم الإنتاج ضمن أعضاء المنظمة بعد السعودية، كما أنه يعتبر المنتج الرابع على المستوى العالمي أيضاً، بعد السعودية والولايات المتحدة وروسيا.
وأكدت الدراسة أن مستقبل الاستقرار الاقتصادي في العراق مرهون بما ستشهده الفترة القصيرة المقبلة من تطورات بشأن التظاهرات، ومداها الجغرافي واتساعها القطاعي، وكذلك رد الفعل الحكومي تجاهها، ومساراتها المحتملة بين إمكانية التفاقم في حال عدم حدوث انفراجة في هذا الإطار، أو التراجع وزوال المخاطر المحدقة بالاقتصاد في حال الوصول إلى توافقات بين الحكومة والمتظاهرين، وعودة الاستقرار إلى الشارع العراقي من جديد.