آخر صيحات انتفاضة 17 أكتوبر في لبنان هي "المنصة الجوالة" التي أطلقتها مجموعة من ناشطين مستقلين في عاصمة الشمال، طرابلس. وتتيح هذه المبادرة فرص متساوية بين المواطنين للتعبير عن مشاكلهم ووجهات نظرهم بمختلف القضايا المطروحة في الفضاء العام. كما تسهم في حضّ الأكثرية الشعبية الصامتة للخروج إلى الشارع، والتأكيد على شعار مركزي للمجموعة "طرابلس تنتفض للبنان".
وتجمع هذه المبادرة بين الفكرة الخلّاقة والحد الأدنى من الكلفة المادية، فهي تتألف من "شاحنة مسطحة"، يبلغ طولها ثمانية أمتار. خلال فترة قصيرة تم تجهيز هذه الآلية، لتحويلها إلى مساحة جامعة للمواطنين. بدايةً تم تصفيح أرضيتها وتغطيتها، كما تم وضع سور لها لتكون أكثر أماناً، وتغطية الخلفية بلوحات "لبنان ينتفض"، كما جُهزت بنظام صوتيات لإطلاق الأغاني الثورية، والكلمات الشعبية. وراعى المنظمون مسألة أن تلائم هذه المنصة طبيعة التصميم العمراني للأحياء الشعبية، وعدم إعاقة المرور. ويشير الناشط أنس شكشك أن التوجه كان لإنشاء منصة لكل لبنان، ونشر "تجربة منصة عروس الثورة في ساحة النور (في طرابلس) إلى كل المناطق، وتجهيز شاحنة كبيرة بقياس 14 متراً، إلا أن الموقف استقر على الحجم الحالي لتسهيل حركتها، وبلوغ وجهاتها كمسرح متنقل وتقديم عروض منوعة". كما يلفت إلى أن تمويل المنصة من جيوب المنظمين، وهي ليست مشروعاً يحتاج إلى موازنة كبيرة، فهي تقوم على هبات المتطوعين الذين يوجد بعضهم على متن الشاحنة.
جولات كسر الجليد
في الأيام القليلة الماضية، بدأت "المنصة الجوالة" بالتنقل بين أحياء مدينة طرابلس، قبل أن تبلغ ذروتها مع احتفالات عيد الاستقلال. في المرحلة الأولى، حاولت المنصة كسر الجليد مع المواطنين، ويلفت الناشط شكشك إلى أن الهدف من الجولات الأولى هو تسويق الفكرة وتعريف الناس عليها وقياس حجم التفاعل معها والتأكيد على أنها منصة لإسماع صوتهم. ولاقت المبادرة ترحيباً كبيراً من المواطنين الذين تجاوبوا مع الأغاني الوطنية والشعارات الثورية التي تحملها.
تنقلت "المنصة الجوالة" بين مختلف الأحياء الطرابلسية من البداوي، إلى جبل محسن، والقبة، وأبي سمراء، والميناء، وصولاً إلى قلب الانتفاضة في ساحة النور. وفي يوم الاستقلال، حققت المبادرة شيئاً من أهدافها، فإلى جانب تنويع النشاطات، والوصول إلى الشرائح المختلفة، وصلت إلى مختلف المناطق على غرار سائر الأيام، وتحلقت حولها جموع بشرية.
كما حالت دون تكريس مركزية منصة "ساحة النور"، ودفعت إلى الخروج من الدائرة التي رسمت للتحركات منذ الأيام الأولى لانتفاضة17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وقدّمت منتَجاً فنياً وثقافياً هادفاً، يوائم بين العيد الوطني اللبناني، والمطالب الشعبية والسياسية المشتركة بين مختلف المجموعات الفاعلة على الأرض. كما قدمت فرصة المشاركة لفئة من الناس منعتها ظروف المرض أو الحالة المعيشية والاقتصادية من النزول إلى الساحات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تطمح هذه المبادرة إلى توسيع نطاق التحركات إلى مختلف المناطق اللبنانية، ويلفت الناشط أحمد حلواني إلى أن "المتطوعين أخذوا على عاتقهم الوجود في كل الأماكن لخدمة قضية التغيير الأساسية، والحفاظ على زخم واستمرارية الانتفاضة وحفظ حرية التعبير... لأن استمرار الضغط سيوصل رسالة واضحة للسلطة السياسية بأن اللبناني يرفض استمرارهم في الحكم".
ويتطلع حلواني إلى أن "تتجاوز المنصة الجوالة الهفوات والأخطاء التي وقعت فيها منصة ساحة النور بسبب وجود "مجموعة طباخين"، عندما وقعت بعض الأخطاء في البرنامج بسبب اختلاف توجهات وخلفيات المشاركين في الانتفاضة الشعبية. وكذلك الوصول إلى أهالي المناطق الشعبية في أحيائهم، لأنهم من أكثر الفئات المتحمسة للتغيير والمشاركة في النقاشات والحوارات السياسية والاجتماعية، إلا أن قدراتهم المادية تحول دون توجههم الى الساحات البعيدة عن أماكن إقامتهم".
إلى جانب جدول الأعمال العام المشترك بين كل المناطق، تفرض الأحياء الشعبية والمناطق المختلفة بعض المواضيع والمطالب الخاصة، انطلاقاً من أوضاعها الداخلية. وتسهم النقاشات في الأحياء المختلفة في إغناء الحركة المطلبية.
يوضح أحمد حلواني أن جدول النشاطات يتألف من ثلاثة أبعاد أساسية، البعد الفني الثوري لأنه جامع للناس، أما البعد الثاني فهو التوعوي السياسي من خلال إطلاق الشعارات المباشرة السريعة التي تحاكي المطالب الشعبية اليومية، وتحديداً تشكيل حكومة اختصاصيين، انتخابات نيابية مبكرة، وإقرار قوانين الإصلاح والمحاسبة واسترداد الأموال المنهوبة. أما البُعد الثالث فتتولاه النقاشات بين الحاضرين، وينتمي إلى Hyde park والنقاشات العامة المفتوحة التي يشارك فيها المواطنون للتعبير عن حقوقهم وأحلامهم وآرائهم بالسياسات العامة.
ولحظت مجموعة المواطنين خطورة إطلاق نقاشات عامة في فضاءات مفتوحة، لذلك يؤكد حلواني أن مَن سيتولى تنظيم هذه النقاشات هم شبان وشابات متمرسون في العمل المدني في الأحياء الشعبية، ويمثلون حوالى 40 مؤسسة مدنية لا عنفية، ترفض أي شكل من أشكال العنف أو التعدي على الأملاك العامة.
على الرغم من انطلاق "المنصة الجوالة" من طرابلس، إلا أنها ستنتقل إلى بقية المناطق اللبنانية لأننا أمام انتفاضة وطنية شاملة. ويلفت حلواني إلى جهود للتنسيق بين الناشطين المنتشرين في مختلف المحافظات اللبنانية، إلا أنه يتحفظ على وجود قيادة عامة للحراك العابر للطوائف، لأن ما من قيادة موحدة تفرض نفسها على الآخرين. ويهدف من خلال التنسيق إلى توحيد الشعارات المطلبية واحترام الأطر الديمقراطية والمؤسسات الرسمية القائمة، وفي مقدمها الجيش اللبناني، للحفاظ على أمن التجمعات البشرية.
ويخلص حلواني إلى القول "انتقلنا إلى مرحلة "تهذيب الانتفاضة" لضبط سلوكيات الأفراد والأهداف المشتركة العامة، والحؤول دون الوقوع في فخ الفوضى الذي وقعت فيه بعض الثورات العربية".