تتوقع أوبك ووكالة الطاقة الدولية أن يسهم تحسن كفاءة وقود السيارات، والسيارات الكهربائية، وانتشار المواصلات المشتركة بكثافة، إلى تخفيض نمو الطلب العالمي على النفط بشكل كبير: أكثر من 15 مليون برميل يوميا خلال العقدين المقبلين.
ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك فيتوقعوا بلوغ الطلب على النفط ذروته خلال الـ11 سنة المقبلة، ويذهب بعض الغلاة في دور السيارات الكهربائية إلى أن الطلب العالمي على النفط سيصل إلى ذروته في العام المقبل.
ولكن هناك أدلة كثيرة على أن كل ما قيل في هذا المجال مبالغ فيه. فمن غير الممكن أن تتحسن كفاءة محركات السيارات في استهلاك الوقود بشكل لم يحصل من قبل! ومن غير الممكن أن يحصل هذا وقد وصلت التكنولوجيا إلى أوجها، وتم اللجوء إلى تخفيف وزن السيارات عن طريق استخدام معادن حفيفة، أو تصغير حجم السيارة. وحاليا لا يمكن اللجوء إلى معادن أخف بدون رفع تكاليف السيارة بشكل كبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولو نظرنا إلى مبيعات السيارات في الولايات المتحدة والصين، نجد أن الناس تتخلى عن السيارات الصغيرة لصالح السيارات العائلية الكبيرة والشاحنات الصغيرة. فعلى سبيل المثال، ارتفعت نسبة السيارات العائلية الكبيرة والشاحنات الصغيرة من 22% من إجمالي السيارات في الوالايات المتحدة إلى حوالي 70% خلال ثلاثة عقود. هذا التحول، رغم تحسن كفاءة المحركات في استخدام البنزين، يعني زيادة الطلب على البنزين. إضافة إلى ذلك، هناك ما يسمى "أثر الانتعاش" أو "ردة الفعل" على تحسن كفاءة محركات السيارات عبر العقود الماضية: زيادة السفر!
وتشير إحدى الدراسات إلى أن زيادة السفر الناتجة عن تحسن كفاءة محركات السيارات تستهلك حوالي ثلث الوفورات الناتجة من تحسن الكفاءة!، ويذكر أن تحسن كفاءة المحركات تعني بالصورة انخفاض تكاليف السفر مقارنة بالماضي، لنفس المسافة.
أما بالنسبة للسيارات الكهربائية، فإن المشكلة ليست الزيادة الكبيرة في أعدادها، وإنما في تقدير أثرها في الطلب العالمي على النفط. وقد تم مناقشة هذه الأمور بالتفصيل في مقالات ماضية، إلا أنه يمكن إجمال الموضوع في ثلاثة أمور.
1 - حلّت السيارات والحافلات الكهربائية محل سيارات وحافلات الغاز وتم حساب ذلك على أنه إحلال للنفط.
2 - تشير التوقعات منذ عام 2008 إلى انخفاض نمو الطلب على النفط في العقود المقبلة بسبب السيارات "الغازية"، وكل ما حصل الآن أن جزءاً كبيراً من توقعات السيارات الكهربائية حل محل توقعات سيارة الغاز.
3- أن السيارات الكهربائية تحل محل أكثر السيارات كفاءة في استهلاك البنزين، وليس أعلاها.
المواصلات المشتركة
إلا أن محور مقال اليوم هو ما يقال عن انخفاض الطلب على النفط بسبب زيادة نسبة المواصلات المشتركة، التي أثبتت البيانات من السنوات الماضية وحتى الآن أن هذه التوقعات خاطئة تماما، وأن "المواصلات المشتركة" تزيد الطلب على النفط بدلا من أن تخفضه.
فقد أشارت العديد من الدراسات المستقلة التي أجريت في مدن عدة حول العالم أن استخدام "أوبر" و"ليفت" ومثيلاتها مثل "كريم" زاد عدد الأميال التي تسيرها هذه السيارات، كما زاد عدد هذه السيارات في الشوارع، وتشير إحدى الدراسات إلى زيادة عدد السيارات في بعض المدن بـ180% بسبب انتشار هذا النوع من المواصلات. وتشير أخرى إلى أن هذه الخدمات تزيد من الاختناقات المرورية في المدن التي تم دراستها، بدلا من أن تحل مشكلات الزحام.
وفي الولايات المتحدة، بقيت نسب المواصلات الخاصة، والعامة، التي يتم فيها المشاركة مع آخرين، ثابتة نسبيا خلال العقود الماضية، لماذا يُتوقع تغيير ذلك فقط لأن محرك السيارة تغير إلى كهربائي، أو لأنه يمكن يوما ما انتشار السيارات الذاتية الحركة؟ ولكن لو نظرنا إلى التغيرات الصغيرة التي حصلت نجد أن نسبة استخدام السيارات الخاصة زادت قليلا، بينما انخفضت نسبة المواصلات المشتركة التي يشارك فيها أشخاص للذهاب إلى عملهم!
ويمكن اختصار موضوع المواصلات المشتركة في النقاط التالية، إضافة إلى ما سبق.
1 - موضوع المواصلات المشتركة ليس جديدا، فهو قديم قدم السيارة. ولا أزال أذكر رحلات أبي، رحمه الله، اليومية من الرياض إلى مدينة الخرج عندما كان يدّرس هناك. كان يذهب مع ثلاثة مدرسين آخرين في سيارة واحدة حيث يتناوبون على سياراتهم. هذه الطريقة في المشاركة شائعة منذ زمن بعيد في شتى أنحاء العالم. لماذا يعتقد البعض أنه أمر جديد على البشرية سيغير استهلاك الطاقة؟
2 - القول بأن جيل الألفية يختلف عن سابقيه وأنه من يطالب بالمشاركة في أمور كثيرة، ومنها السيارات، غير صحيح. فقد أثبتت الاستبيانات التي أجرتها بعض المؤسسات الإعلامية على أن هذا الجيل لا يختلف كثيرا عن سابقيه في نظرته لملكية السيارة. ولا شك أن هناك أدلة، خصوصا من الولايات المتحدة، أن هذا الجيل أقل ملكية للسيارات من سابقيه، وأقلهم قيادة للسيارة، ولكن هذا لا يعني انخفاض الطلب على البنزين، وتشير البيانات إلى أن سيارة العائلة الآن تمشي سنويا أكثر مما كان يحدث في العقود الماضية. وتشير البيانات إلى أن نفس هؤلاء الذين لا يملكون سيارة ينتقلون إلى ملكية سيارة عائلية كبيرة مجرد زواجهم أو قدوم أول مولود. هذا يعني أنه بدلا من أن يبدأ الأمر بشراء سيارة صغيرة مستعملة عند عمر 16، ثم استبدالها بسيارة صغيرة جديدة في عمر 20، ثم الانتقال إلى سيارة أكبر في عمر 24، ثم الانتقال إلى سيارة عائلية كبيرة في عمر 30، يتم الانتقال مباشرة من لا شيء إلى سيارة عائلية كبيرة!
3 - تشير البيانات إلى أن أوبر وأخواتها حلت محل المواصلات العامة لأنها أسهل وأسرع وآمن، وأكثر راحة، وفي بعض الأحيان أرخص. وبالتالي فإن فكرة أن المواصلات المشتركة ستحل محل ملكية السيارات الخاصة غير صحيحة. وتشير البيانات إلى أنه مع انخفاض أسعار البنزين في الولايات المتحدة، انخفض عدد الركاب في الحافلات العامة والقطارات.
4 - أما الذين يعتقدون أن السيارات الذاتية الحركة ستغير سلوك الناس، فإن كل الاستبيانات في هذا المجال أثبتت أن الناس ليس لديها ثقة في هذه التقنية حاليا، بينما تشير توقعات إلى أن تبني هذه التكنولوجيا يحتاج إلى عقود من الزمن. شخصيا أعتقد أن استخدامها سيكون محدودا لعدة أسباب، أهمها الخوف من قيام "الهاكرز" بالسيطرة على السيارة وأخذها حيث يشاؤون حتى تتحقق طلباتهم. الثاني أن جزءا لا بأس به من السائقين يشعرون بالدوار في هذه السيارات.
من ناحية أخرى، بدأت تتكاثر الشكاوى والاتصالات في الأونة الأخيرة بمقار الشرطة من قبل مواطنين أميركيين يشتكون من كثرة سيارات التوصيل، من أمازون وغيرها، في عدد من المدن الأميركية، في الوقت الذي بدأ فيه السائقون يشتكون من تزايد عدد سيارات التوصيل. فالاختناقات المرورية الناتجة عن هذه التكنولوجيا تزيد الزحام، وتزيد من استهلاك الوقود.
خلاصة القول، نحن مقبلون على أزمة طاقة بسبب المبالغة في أثر التكنولوجيا في تخفيض الطلب على النفط، الذي سيكون أكبر من المتوقع، ولن تكون هناك إمدادات كافية من النفط لأن الدول والشركات النفطية بلعت الطعم، وأخذت بتوقعات أوبك ووكالة الطاقة الدولية وغيرها. ولا أستغرب حصول ردة فعل من الناس وصناع القرار، تحجم من انتشار هذا النوع من المواصلات.