في ترابط زماني كثيف الدلالة، ترادفت مبادرتا "رؤية العُلا" و"صندوق حماية النمر العربي"، بل جمع بينهما خيط التنوّع، وفق ما هو واضح في سياق المبادرتين اللتين أطلقهما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في مطلع الأسبوع الحالي.
وتشمل "رؤية العُلا" مجموعة من المشاريع التي ترمي إلى تنمية محافظة "العُلا"، وتعزيز السياحة فيها بوصفها خطوة في تنوّع مواردها الاقتصاديّة. وتشتهر تلك المنطقة بأنها حاضنة تنوّعٍ حضاريٍ عريق يشمل الممالك الدادانية واللحيانيّة والنبطيّة. وتشتهر الأخيرة بعلاقتها الوثيقة بالحضارة العربيّة- الإسلاميّة، خصوصاً في اللغة، وكذلك في العلوم على غرار ما وثّقه كتاب "الزراعة النبطيّة" لإبن وحشية. وشهدت المنطقة ذاتها أخيراً مهرجان "شتاء الطنطورة" (وهي منطقة آثاريّة في "العُلا") الذي أحيته مسارات موسيقية متنوّعة شملت الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي ومغني الأوبرا الإيطالي الشهير أندريا بوتشيللي، والموسيقار اليوناني ياني وغيرهم.
في محافظة العُلا التي يترأس ولي العهد مجلس إدارة الهيئة الملكيّة فيها، جرى تدشين "محميّة شرعان الطبيعيّة" عبر إطلاق عشرة وعول، ومثلها من النعام الأحمر الرقبة، إضافة إلى عشرين غزالاً. ويرمي ذلك إلى تجديد التنوّع البيولوجي في تلك المحمية. وكذلك وُصِفَ "الصندوق العالمي لحماية النمر العربي" الذي تساوق مع "رؤية العُلا" و"محمية شرعان"، بأنه الأضخم دوليّاً، ويرمي إلى حماية ذلك النوع الحيواني من الانقراض.
بقول مجمل، يمثّل التنوّع في الاقتصاد والطبيعة والأنواع الحيّة، الخيط الذي يربط تلك الخطوّات المتنوّعة المرتبطة أيضاً بـ"رؤية 2030" الرامية ضمن أشياء أخرى، إلى كسر أحادية الاقتصاد النفطي وتعزيز التنوّع في اقتصاد المملكة العربيّة السعودية.
الكثرة ثراء للواحد والعكس بالعكس
الأرجح أن كثيرين يفوتهم ملاحظة أن انقراض الأنواع يمثّل ظاهرة طبيعيّة في الأساس، وهو جزء من تعقيد ظاهرة الحياة على الكرة الأرضيّة، والتشابك بين أنواعها في مسارات التطوّر والاستمرار والاندثار. إذ انقرضت الديناصورات مثلاً بفعل عوامل طبيعية، بل ربما انتمى بعضها إلى الطبيعة الكونيّة المحيطة بالأرض كالمذنبات. إذ يرى بعضهم أن ارتطام مذنب ضخم بالأرض أدى إلى تغيّر سريع وشامل في البيئة لم يستطع الديناصور التأقلم معه، فانقرض.
في المقابل، يتنامى الوعي العلمي في شأن تأثيرات سلبيّة في البيئة، متأتية من نشاطات البشر. ويعطي انقراض الأنواع الحيّة مثلاً عن تلك التأثيرات، بمعنى أن الإنسان سرّع في عمليات الانقراض، بل ربما فرض بعضها قسراً، ما أحدث خللاً متفاقماً في التوازن الطبيعي. ويسرّع النشاط البشري عمليات الانقراض عبر آليات تشمل الصيد الجائر، وتلويث المَواطن والمستقرات الطبيعيّة (بل تدميرها أحياناً)، وخلخلة التواصل في الموائل الطبيعية على غرار تفتيتها بشق الطرق والأوتوسترادات، واقتطاع أجزاء منها لاستغلالها في الزراعة أو التربية المكثّفة للحيوانات، أو غزوها بمشاريع العمران المديني وغيرها. وأحياناً، تؤدي نشاطات غير مؤذية إلى الفتك ببعض الكائنات، كما يحدث للدلافين التي تنفق لدى تصيّدها في الشباك الضخمة المُعدّة أصلاً لصيد أسماك التونا.
على نحو مماثل، يحدث أحياناً خلل في موائل طبيعية لأنواع حيّة بأثر من استقدام كائنات من بيئات أخرى، فيكون نموّها في بيئتها الجديدة على حساب أنواع أصيلة. ويحدث ذلك إما بالصراع المباشر بينها، أو التنافس على الموارد الطبيعية أو التزاوج المؤدي إلى ظهور نوع هجين، يتكاثر بقوة وكفاءة فيما تتضاءل الأنواع المتزاوجة تدريجاً.
وتتفاوت الأرقام العلميّة في شأن عدد الأنواع الحيّة التي تضمّها الكرة الأرضيّة. ولفترة طويلة، ساد اتفاق على وجود ما يفوق 1.5 مليون نوع، مع التشديد على وجود أضعاف ذلك الرقم من الأنواع غير المكتشفة (وفق تقارير متتالية من هيئات دوليّة مثل "آي يو سي أن"). ووفق أرقام نشرتها جامعة شيكاغو في 2017، يتراوح العدد المتداول علمياً عن عدد الأنواع الحيّة بين مليونين و12 مليوناً، مع التأكيد أيضاً على وجود أضعاف ذلك من الأنواع غير المكتشفة. وفي العام ذاته، رجّح علماء في "جامعة أريزونا" أن يكون عدد أنواع الحشرات قرابة 6.8 مليون، مع إمكان ارتفاع الرقم إلى 40 مليوناً إذا أُخذت الأنواع المُتوّقَع اكتشافها في الاعتبار. وأشار أولئك العلماء في تقرير نشروه في "النشرة الفصليّة للبيولوجيا" (عدد خريف العام 2017)، إلى أن العدد الفعلي للأنواع الحيّة ربما يلامس... المليارين!
لنتعلم من النحل
إذا كان من دلالة لتلك الأرقام الضخمة، فإنها تتمثّل أساساً في أن كل نوع حيّ مهم لاستمرار ظاهرة الحياة على الأرض، والأنواع الحيّة كلها تتبادل الاعتماد على بعضها بعضاً، فيحمل فناء واحد منها تهديداً لاستمرار النظام البيولوجي بأكمله. في السنوات الأخيرة، يثير التضاؤل المستمر للنحل أرقاً لا يهدأ عند العلماء، لأنه نذير بتدمير واسع للتنوّع البيولوجي. وهناك عبارة متداولة تعبّر عن ذلك القلق تقول إن عين البشر ربما لا تشهد موت النحلة الأخيرة لأنهم قد يفنون قبلها!
ويندرج النمر العربي ضمن فصيلة السنّوريّات. وتمثّل السعودية وعُمان واليمن والإمارات والأردن وبادية الشام وصحراء النقب وشبه جزيرة سيناء. ويتغذّى على الماعز والغزلان، خصوصاً غزلان الجبل، إضافة إلى الثعالب والثدييات الصغيرة والطيور، بل حتى الجيف. ومع تضاؤل مصادر غذائه في موائله، خصوصاً الغنم والغزلان، انخفضت أعداده. وتفاقمت ندرته مع زيادة تصيّده. وفي العام 2006، قدّرت دراسة أجرتها "جامعة الملك سعود" بعد مسح شمل 50 موقعاً في جبال الحجاز، أن أعداده تقارب الـ 65 في تلك الجبال. ويُعتقد بأن العدد ذاته في شبه الجزيرة العربيّة كلها لا يتجاوز الـ200.
كما في السياسة والاجتماع، لا شيء يضرب الحضارة بمعطياتها كلها أكثر من الأحادية وتضاؤل التنوّع. حتى في الجسد البشري الواحد، عندما ينفلت تكاثر نوع واحد من الخلايا في شكل أحادي، يسير الجسد كله إلى فناء، لأن ذلك التكاثر الأحادي هو السرطان تعريفاً. وأما في السياسة والاجتماع، هناك في الذاكرة التجربة المريرة للنازية التي سعت إلى أحادية منفلتة قوامها تفوّق عرق واحد على سواه، فكانت محارق الـ "هولوكوست" ومأساة الحرب العالميّة الثانية وما إلى ذلك.