تخيلوا للحظة أننا نعيش في عام 1999، وأن العالم بأسره يمتلك منفذاً مباشراً إلى ذهن بيل كلينتون. ستُرفض هذه الفكرة لكونها سخيفة، بالطبع - ولأنها خيال علمي، أو ربما إذا كنتم مونيكا لوينسكي، ستعتبرونها تبرئة. ومع ذلك، بعد 20 عاماً، بات الكوكب بأكمله يمتلك بوابة مفتوحة على ذهن دونالد ترمب، حيث يستخدم الرئيس الأميركي الخامس والأربعون موقع تويتر للرد مباشرة على أي شيء وكل شيء.
في 29 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1999 ، شهدت دور السينما في الولايات المتحدة عرض فيلم "أن تكون جون مالكوفيتش"، وهو أول عمل سينمائي للمخرج سبايك جونز والكاتب تشارلي كوفمان. يقوم ببطولة الفيلم جون كوزاك في دور كريغ، وهو محرك دمى أشعث وعاطل عن العمل، وزوجته ذات الشعر المنفوش والمهووسة بالحيوانات الأليفة (كاميرون دياز ـ التي لا يمكن التعرف عليها بعد أدائها المذهل لدور الحسناء الشقراء تينا في فيلم "ذا ماسك" (القناع) قبل بضع سنوات) التي تشجعه على قبول وظيفة أرشيفية في شركة غريبة. وضمن اللامنطقية الكلاسيكية لهوفمان نجد أن الشركة موجودة في الطابق السابع والنصف حيث تقع بين الطابقين السابع والثامن في بناء يحتوي على مكاتب، ويضطر الموظفون إلى خلع أبواب المصعد كي يخرجوا منه، ومن ثم السير شبه مطويين على أنفسهم بسبب الأسقف شديدة الانخفاض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال عمله في هذه البيئة الشبيهة بمزيج من أجواء حكايتي المسخ لفرانز كافكا وأليس في بلاد العجائب للويس كارول، يكتشف كريغ منفذاً يوصله مباشرة إلى رأس الممثل جون مالكوفيتش - حيث يختبر حياة الفنان لمدة 15 دقيقة قبل أن يُلقى به على قارعة طريق سريع في نيوجيرزي.
يمكن تشبيه ما تقدمه تلك البوابة بحسابات المشاهير على موقع إنستاغرام - ما عدا أن إنستاغرام غير إجباري - لكن قبل عقد من الزمن من اختراع موقع مشاركة الصور. يشاهد كريغ مالكوفيتش وهو يختار لون مناشف الحمام الخاصة به من كتالوج، وهو يأكل وجبة الإفطار، وهو يطلب سيارة أجرة ويقوم بأنشطة دنيوية أخرى، بنفس الطريقة التي يمكن أن يرى بها أتباع تايلور سويفت أو كيم كارداشيان البالغ عددهم 100 مليون شخص ما تقومان به في يومنا هذا. ومثل مشاهير انستاغرام حالياً، يحوّل كريغ تلك التجربة إلى فرصة عمل تجاري عندما يتعاون مع زميلته الجذابة في العمل ’ماكسين’(الممثلة كاثرين كينر) ليقوم بتقاضي مبلغ 200 دولار من المقامرين مقابل قضاء 15 دقيقة داخل رأس مالكوفيتش.
في عام 1999 قال مالكوفيتش لصحيفة نيويورك تايمز: "أعتقد أن الأمر يتعلق بالحاجة إلى الهروب من نفسك لمدة 15 دقيقة، وهو شعور ينتاب الجميع. لكن الفكرة تدور حقاً حول شيء أكثر فساداً. إنها فكرة أننا نعيش الآن حياة افتراضية. نحن نعيش أفراحنا وأحزاننا ونقاط ضعفنا من خلال حياة الشخصيات العامة". لقد كان هذا الكلام قبل عقدين من الزمن، قبل سبع سنوات من انطلاق تويتر وبدء فيسبوك بجمع ذكرياتنا.
وعندما تمت إعادة إصدار الفيلم على أقراص دي في دي في أميركا، كتب الناقد سكوت توباياس: "على الرغم من أن الفيلم ما زال صاخباً تماماً مثلما كان في أي وقت مضى ... فإن موضوعه حول الهوية والرغبة لم يزدد إلا عمقاً مع مرور الوقت، مع تطور الإنترنت إلى مكان باتت فيه الشخصيات عائمة ومزيفة في بعض الأحيان، والخيال المتمثل في الوصول إلى عقول المشاهير - أو عقل أي شخص، فإن الفيلم في هذا الصدد - ليس بعيداً جداً عن منشورات تويتر."
كتب كوفمان السيناريو في أوقات فراغه خلال فترة محبطة كان يعمل فيها في مجال الكوميديا التلفزيونية. وقال: "كان الناس يقرأون [السيناريو] ويقولون لي كم هو مضحك، ثم يدعونني للقاء ويخبرونني أن لا أحد سيصنع الفيلم أبداً." ثم انضم إلي سبايك جونز، كمخرج، وهو صانع ناجح لأعمال الفيديو كليب الموسيقية، وهكذا انطلق إنتاج الفيلم. كانت العقبة التالية، بالطبع، هي إقناع جون مالكوفيتش بأداء شخصيته. وكان كوفمان مصراً (على الرغم من أن منتجي الفيلم اقترحوا بديلاً "أن تكون توم كروز") أنه لا يريد أحداً سوى مالكوفيتش.
وأخبر مالكوفيتش مجلة "رولينغ ستون" في عام 2013: "عندما طلبوا مني القيام بذلك، كنت قلقاً بعض الشيء ... ليس بسبب أسلوب العمل أو محتواه إطلاقاً، ولكن بسبب الشعور المرافق له، إذا قمت بعمل فيلم لا يرد فيه اسمك فوق العنوان ولكن في العنوان نفسه، عندها قد تتكون لديك بعض النزعات النرجسية الخطيرة التي تتطلب التمعن."
إنه بارع، على الرغم من ذلك، إذ إنه يجلب مستوى شهرة إلى المشروع بالمقدار المطلوب كي لا يفقده توازنه، ويقدم موهبة في التهكم من الذات لم تكن مكتشفة حتى ذلك الحين. وقال الناقد السينمائي ديفيد طومسون في كتابه "هل شاهدتَ...؟" لمراجعات الأفلام الصادر عام 2008:" لقد قدم مالكوفيتش معروفاً لنفسه بتغييب الأنا التي تعتبر أكثر إثارة للدهشة بالنظر إلى عمله ... يركز هذا الفيلم بشكل رائع على الهوة الكبيرة بين الغرور الواهي لجون مالكوفيتش ... وهذا الرأس الصبور جداً الذي ياعني لفترة طويلة، وسمحَ بقدر كبير من حركة المرور القادمة والمغادِرة دون أن يتجاوز اعتراضه التنهد."
إذا نظرنا إلى الوراء من وجهة نظر عام 2013 ، يبدو أن إرث الفيلم كان يلتبس كثيراً على مالكوفيتش نفسه. حيث قال في مقابلته مع رولينغ ستون هذه الاستعارة المثيرة للدهشة: "إن الأمر أشبه بممارسة الجنس مع الشخص الخطأ، ثم تصبح حياتك ممارسة جنسية ... لذلك، يجب أن تتم الإشارة إلى "أن تكون جون مالكوفيتش" دائماً بطريقة ذكية أو ساخرة أو مزعجة."
إذا لم تكونوا قد شاهدتم "أن تكون جون مالكوفيتش" مؤخراً - أو على الإطلاق - فأنا أحثكم على القيام بذلك. إنه فيلم مضحك مثله مثل أي كوميديا حمقاء كلاسيكية، مع وجود أداء رائع لـكوزاك و دياز و كينير وأورسن بين في دور المالك الغامض لشركة "ليستر كوربوريشن" (التي يعمل فيها كريغ)، وبالطبع جون مالكوفيتش نفسه.
كما أن الفيلم سابق لزمانه، ليس فقط في توقع الطريقة التي يمكّن من خلالها تويتر وإنستاغرام الوصول الحميمي إلى حياة الآخرين، ولكن من خلال التلاعب بفكرة ميوعة الهوية الجنسية. "التلاعب" هي الكلمة الملائمة هنا، حيث توجد خفة غير واعية في مقاربة كوفمان - وهي خفة قد يواجه الكاتب، نحو الأفضل أو الأسوأ، صعوبات لتمريرها اليوم.
لا أعتقد أن كوفمان كان يقدم أي تصريحات جدية هنا. في الواقع، ربما كان يتلاعب بالاحتمالات فقط ويرى إلى أين يمكن أن تؤدي. ولكن كدليل على الأشياء القادمة، فإن العبارة التي تقولها لوتي (دياز): "لا تقف في طريق تحقيقي للأمر مثل رجل" مهمة. يمكنني القول إنها لا تقل أهمية عن الجملة الأخيرة التي يقولها جو إي براون في فيلم "البعض يفضلونها ساخنة" عام 1959 - الذي صدر قبل عشر سنوات من قيام أعمال شغب ستونوول بتقديم المثليين بحرية في الوعي العام. عندما يكشف جاك ليمون الذي يرتدي ملابس النساء للمليونير أوزغود أنه رجل حقاً للمليونير، فإن الأخير يقول باستهجان: "حسناً، لا يوجد أحد مثالي". إنها طرفة، لكنها طرفة توحي بعمق بتغير المواقف الاجتماعية.
في الفيلم، تصبح لوتي مغرمة بماكسين مثل زوجها، وتضع خططاً سريعة لمناقشة "جراحة تغيير الجنس" مع أخصائي الحساسية الذي يعالجها وتوجه التحذير التالي لـكريغ في أحد أشهر الحوارات في الفيلم قائلة: "لا تقف في طريق تحقيقي للأمر مثل رجل". لكن ماكسين لديها فكرة أخرى، حيث سمحت لـ لوتي بمارسة الجنس معها عندما كانت الأخيرة في رأس مالكوفيتش. في المقابل، وبسبب التجاهل المبدئي لمالكوفيتش إلى حد بعيد، تبدأ ماكسين بمناداة مالكوفيتش باسم "لوتي" وسط مشاعر متأججة.
تم ترشيح تشارلي كوفمان لجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو عن فيلم "أن تكون جون مالكوفيتش" (لكنه خسر أمام فيلم جمال أميركي). وما كان به إلا أن فاز بعد خمس سنوات عن فيلم ’ إشراقة أبدية لعقل نظيف’، لكنني ما زلت أعتقد أن الفيلم الأول هو الأفضل. أما بالنسبة لجون مالكوفيتش، حسناً ... على الرغم من مسيرة مهنية شملت أكثر من 70 فيلماً والكثير من الأعمال المسرحية، وكما كان يخشى الممثل دائماً، فإن الفيلم الذي يحمل اسمه في العنوان قد يكون أكثر عمل له عالق في الذاكرة في نهاية المطاف. وأنا بدوري، سأكون شاكراً له على الدوام على ذلك الفيلم.
© The Independent