رغم كل ما يُثار من أن حلف شمال الأطلسي – الناتو – دخل مرحلة الشيخوخة خلال الاحتفال بمرور 70 عاماً على تأسيسه، وما يتردد من خلافات وتباينات بين قادة دوله، والقلق من تراجع قدرة الحلف على توجيه ضربات أو عدم التزام أعضائه ببند الدفاع المشترك مستقبلاً، إلا أن الناتو أثبت طوال العقود الماضية قدرة مذهلة على تخطي الصعاب وتجاوز الأزمات التي واجهته، في حين فشلت أو تعثرت التحالفات الدفاعية الأخرى حول العالم مع مرور الزمن وتغير الأوضاع السياسية أو الاهتمامات الاستراتيجية.
علامات الخلاف
فبعد 3 سنوات من تساؤلاته عن حلف الناتو ووصفه بأنه عفا عليه الزمن، وانتقاد مساهمات أعضائه المالية، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترمب فجأة مدافعاً عن كرامة الحلف في وجه الانتقادات التي وجهها قادة آخرون مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي اعتبر الحلف في حال "موت دماغي"، ما أثار علامات الدهشة والاستغراب.
وما زاد من التعجب أن رئيس أكبر وأهم دولة في الحلف تملكه الغضب فقطع زيارته وألغى مؤتمراً صحافياً في وقت كان قادة كندا وفرنسا وبريطانيا يسخرون منه في فيديو انتشر عالمياً، ما زاد من القلق حول مدى تماسك أقدم وأنجح تحالف سياسي وأمني ودفاعي شهده العالم الحديث.
لكن الحقيقة التي يدركها الجميع هي أن رئيس الولايات المتحدة ليس رئيساً بين زعماء متساوين، فالقدرات العسكرية للقوة العظمى الوحيدة في العالم ومخزونها النووي، يمكن أن ينهي الحياة من سطح الأرض، كما أن حاملات طائراتها العشر، تُمثل كل منها قاعدة جوية عائمة وسط البحار والمحيطات وبعدد طائرات أكثر مما تمتلكه غالبية دول الناتو، وتستطيع الولايات المتحدة بطائراتها الاستراتيجية والفرق المحمولة جواً أن تنقل فرقاً عسكرية كاملة إلى أي بقعة في العالم خلال 24 ساعة فقط. كل هذه القدرات هي حجر الزاوية الذي أبقى حلف الناتو شاباً وقوياً رغم عمره البالغ 70 عاماً وهي الضمانة الأساسية لأمن أعضائه.
من يتبع من؟
ربما كان ترمب مخطئاً في نظرته إلى الحلف من حيث ماهية فائدته إلى أميركا، ولعله تسبب في إحداث تدمير داخل الحلف أكثر من أي زعيم آخر، إلا أنه كان مُحقاً في مطالبته باقي أعضاء الحلف بسرعة زيادة مساهمتهم المالية في ميزانية الناتو حرصاً منه على الحلف ودوره المستقبلي الذي تحيق به الأخطار.
كما أن العديد من قادة الحلف ومنهم ماكرون نفسه، لا يختلفون مع ترمب في التركيز على مواجهة التطرف والإرهاب في الشرق الأوسط وإفريقيا لاستئصاله، بدلاً من التركيز على روسيا.
وبرغم تبادل السخرية من ترمب في قصر باكنغهام، فإن الحلفاء في أوروبا وكندا ولأسباب تاريخية وجغرافية، سوف يتبعون الولايات المتحدة من أجل الدفاع عن أمن دولهم، فالرئيس ماكرون مثلاً، لا يستطيع أن يعتمد على ألمانيا لتلبية الاحتياجات الدفاعية لبلاده حتى لو قررت برلين أن تحول قوتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية، لأسباب تاريخية معروفة، كما أن تشكيل جيش أوروبي يبدو نظرياً فكرة لطيفة، لكن من حيث الواقع فإن تشكيل جيش أوروبي خلال سنوات ليصبح بديلاً عن الناتو يبدو شيئاً بعيد المنال.
وحتى لو خسر ترمب الانتخابات الرئاسية المقررة بعد عام من الآن، فإن من سيحل محله من الديمقراطيين لن يكون على الأرجح أكثر تقديراً من للناتو، خاصة إذا كان ممن ينتمون للتيار التقدمي في الحزب الديمقراطي الراغبين في تقليص الميزانية الدفاعية الأميركية لتمويل مشاريع برامجهم الانتخابية من تأمين صحي مجاني للجميع وإلغاء ديون قروض طلبة الجامعات.
توافق تحت الضغط
وفي ظل الخلافات التي هيمنت على سطح القمة السبعين للحلف، فإن للتاريخ كلمة أخرى، حيث كانت التباينات عبر ضفتي الأطلسي سمة من سمات الناتو منذ تأسيسه في 4 أبريل (نيسان) عام 1949، فالأزمات التي وقعت تباعاً حول العالم وأدت إلى خلافات في الرأى خاصة التي حدثت خارج إطار الناتو جغرافياً تم تجاوزها مثل أزمة السويس (العدوان الثلاثي على مصر) عام 1956، والغزو الأميركي للعراق عام 2003، وخروج فرنسا من الشق العسكري للحلف عام 1966 وأزمة نشر صواريخ بيرشينغ الأميركية في أوروبا خلال الثمانينيات وانتهاء بالخلاف حول اقتسام عادل للتكاليف المالية.
لكن ما أبقى على الحلف متماسكاً في النهاية هي المصلحة الاستراتيجية المشتركة للحفاظ على الغرب موحداً ضد التهديد الذي مثله الاتحاد السوفييتي وروسيا من بعده.
تغيرات مستقبلية
ومع ذلك تحذر تقارير دفاعية من أن الناتو عام 2024 قد لا يكون متسقاً، فالضغط الأميركي كي تساهم أوروبا بنصيب أكبر في ميزانية الدفاع، سوف يستمر حتى بعد انتهاء فترة حكم الرئيس ترمب، ذلك أن الاتجاهات العامة تشير إلى أن تغييراً مهماً سوف يطرأ على العلاقات بين ضفتي الأطلسي سببه أن أميركا ستواجه تراجعاً نسبياً في نفوذها حول العالم، ما يستتبعه تزايد مسؤوليات أوروبا في تحمل عبء أكبر للدفاع عن أمنها رغم ضعف قدراتها العسكرية مقارنة بالقدرات الأميركية.
صحيح أن الولايات المتحدة سوف تظل هي القوة العسكرية الأولى عالمياً لسنوات وربما عقود أخرى قادمة، إلا أن الصين قد تصعد اقتصادياً لتتبوأ المركز الأول، كما سيكون لدول أخرى صاعدة نصيب أكبر في الناتج الاقتصادي العالمي، وقد تؤدي سياسة "أميركا أولاً" التي يتبعها ترمب إلى عالم متعدد الأقطاب.
وحتى لو كان الرؤساء التالون لترمب أقل ميلاً لاتباع سياسات حمائية، فإن تراجع الهيمنة الأميركية في الشؤون العالمية سوف يتواصل، مما سيكون له انعكاسات على حلف الناتو ويجعل انخراط الحلف في الأزمات الدولية خارج أوروبا أكثر تعقيداً.
ومع تزايد الاهتمام الأميركي بلعب دور أكبر في مواجهة الصين في غرب المحيط الهادئ، فمن المرجح أن تخصص واشنطن مصادر مالية أكثر لتواجدها العسكري في هذه المناطق، مما سيدفع أميركا للضغط على أوروبا لتحمل مسؤولية أكبر في الدفاع عن نفسها.
تحدي القيم الغربية
مع التراجع النسبي لنفوذ الغرب حول العالم، سيصبح تشجيع منظومة القيم الغربية من دعم الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان وحكم القانون، أكثر صعوبة عن ذي قبل، كما أن تأثير الأحزاب الشعبوية أصبح ملموسا في العديد من الدول الأوروبية، وهو ما يؤثر على التعاون بين دول الناتو مثل تركيا التي تحدت حالة الاتساق بين دول الحلف عبر تدخلها العسكري في سوريا والعراق ومن خلال شرائها صواريخ إس 400 من روسيا.
ويشير تحليل التهديدات المستقبلية إلى أن التطورات التكنولوجية في مجال الذكاء الصناعي والأتمتة، سيُمكن الخصوم من امتلاك أسلحة ذات تكنولوجيا متقدمة، وستكون المنطقة الرمادية بين الصراعات المسلحة والسلام، ظاهرة أخرى سوف تتواصل.
التهديد من الداخل
وتشير تقارير غربية إلى أن الجغرافيا والتاريخ والمصالح الوطنية ترجح استمرار حالة الانقسام داخل حلف الناتو، وقد يكون الناتو مهددا من الداخل مثما حدث من خلاف كبير بين تركيا من جانب والدول الأوروبية من جانب آخر بسبب الغزو التركي لسوريا، كما أن هناك تباينات في الأولويات حيث ترى دول شرق أوروبا أن التهديد الأول يأتي من روسيا، في حين أن دول جنوب أوروبا ترى أن عدم الاستقرار والاضطراب في الشرق الأوسط وإفريقيا هو التهديد الأول لأمنها.
التخطيط للمواجهة
ونظراً لتزايد عدد المسنين في القارة الأوروبية مستقبلاً، ما يعني مزيداً من النفقات الحكومية على الرعاية الصحية والاجتماعية، ومن ثم تزايد الأعباء على الميزانية، فإن النفقات الدفاعية الأوروبية سوف تشهد زيادة أيضاً، ومع تزايد التهديدات التي يواجهها الحزب، سوف تتفاقم الحاجة لتماسك الحلف دفاعياً وأمنياً وسياسياً، كما ستؤدي المصالح الجيوسياسية إلى ارتفاع التعاون في التجارة والطاقة، فضلا عن الحاجة لمشاورات سياسية أوسع وجهود دبلوماسية.
لماذا نجح الناتو؟
يتفق المؤرخون على أن حلف الناتو هو أنجح تحالف دفاعي في التاريخ، فبالرغم من أنه بدأ تحالفاً سياسياً عام 1949، إلا أنه تغير بسرعة بعد أن تمكن السوفييت من انتاج واختبار أول قنبلة نووية في نفس العام، وبعد عام اندلعت الحرب الكورية ما جعل أعضاء الناتو يسارعون إلى تخصيص مصادر مالية وعسكرية مشتركة، غير أن الفقرة الخامسة من اتفاقية الناتو التي تنص عن الدفاع المشترك عن أي دولة من الحلف تتعرض لهجوم، وضع جميع دول غرب أوروبا تحت المظلة النووية الأميركية.
ومنذ ذلك الحين نجح الناتو في الفوز بالحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي عندما سقط الستار الحديدي وجدار برلين، وانتصر مرة أخرى حين ضم الدول الشيوعية السبع في شرق أورويا إليه، ولأنه لا نهاية للتاريخ، لم يكن العالم ليصبح أكثر أمنا بانهيار الاتحاد السوفييتي، حيث أثبت الغرب وحلف الناتو أنه لم يكن فقط أقوى عسكرياً، بل أقوى اقتصادياً ما مكنه أن يكون أكثر تماسكاً واستقراراً.
سبب فشل حلف وارسو
تأسس حلف وارسو كرد فعل على انضمام ألمانيا الغربية إلى حلف الناتو عام 1954 أي بعد تأسيس الناتو بخمس سنوات، وبالرغم من تأكيد الاتحاد السوفييتي أن حلف وارسو هدفه دفاعي فقط، إلا أن الهدف كان بسط الهيمنة الشيوعية على أوروبا الشرقية، حيث استخدم السوفييت الحلف كغطاء شرعي للتدخل ضد المظاهرات المناهضة للشيوعية في المجر 1956 وفي تشيكوسلوفاكيا عام 1968.
ولكن مع نهاية الثمانينيات، أحدثت التظاهرات المعادية للشيوعية شرخاً كبيراً في حلف وارسو في وقت كان الاتحاد السوفييتي قد أرخى قبضته الحديدية، وفي عام 1990 خرجت ألمانيا الشرقية من الحلف لتستعد للوحدة مع ألمانيا الغربية، وفي عام 1991 تم حل الحلف.
منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا (سيتو)
لم يكن الاتحاد السوفييتي وحده الذي فشل في تشكيل تحالفات، حيث فشلت الولايات المتحدة كذلك في الحفاظ على اتفاقية دفاعية هي منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا (سيتو) التي كان تأسيسها الرسمي بدعم وتشجيع أميركي في بانكوك عاصمة تايلاند في فبراير 1955 بهدف مواجهة الامتداد الشيوعي في دول جنوب شرقي آسيا.
لكن المنظمة فشلت بسبب الصراع الداخلي والخلافات التي عرقلت الدفاع المشترك ليتم حلها في 1977 بعدما فقدت الدول المشاركة فيها اهتمامها وانسحبت منها حيث كانت تشمل استراليا وبريطانيا وفرنسا وباكستان والولايات المتحدة.