لبنان، على كل الألسنة، قصة "انهيار معلن". لا كعنوان رواية مثل قصة "موت معلن" بل كواقع تراجيدي. أما الكوميديا السوداء، فإنها توظيف الانهيار في خدمة الذين أوصلوا البلد إليه، لا في سياسة وحكومة للإنقاذ. فاللعبة لم تتغير: الخائفون من الثورة الشعبية يتهمون الخائفين عليها المؤمنين بها والصامدين في حراك الشارع بالرهان على الدعم الأميركي، حيث لا دعم إلا بالكلام من بعيد. في حين أن الفعل لإيران عبر "حزب الله". لا بل يصفون دعوة الثوار إلى حكومة إنقاذ وطني وانتخابات نيابية مبكرة على أساس قانون جديد بأنها "انقلاب" على اتفاق الطائف وموازين القوى التي كرستها الانتخابات النيابية الأخيرة، وبالتالي على "المقاومة والعهد القوي". والمفارقة سوريالية: أصحاب الاتهامات والمطالبون بحكومة "وحدة وطنية" نصّ عليها اتفاق الطائف في المرحلة الانتقالية بعد حرب لبنان، وتحقق "الميثاقية"، هم أبرز الذين كانوا ضد الطائف من البداية. الرئيس العماد ميشال عون الذي كان يومها قائداً للجيش ورئيساً لحكومة عسكرية استقال نصف أعضائها الذين يمثلون المسلمين. و"حزب الله" الذي كان هدفه المعلن في تلك الأيام إقامة "جمهورية إسلامية" تابعة لولاية الفقيه. وعلى الطريق، حدث تفاهم بين الوصي السوري على لبنان بعد الطائف وجمهورية رجال الدين في إيران على إخراج المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي من ساحة الجنوب لانفراد "حزب الله" بالمقاومة التي صارت إسلامية.
والواقع أن الانقلاب الفعلي كان في الاتجاه المعاكس. لا فقط من خلال الممارسة المناقضة للطائف الذي صار دستوراً بل أيضاً عبر الخروج على سياسة "النأي بالنفس" عن صراع المحاور الإقليمية والدولية. فالحرص على تأخير الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلف تأليف الحكومة، هو تغيير في أصول اللعبة البرلمانية الديمقراطية التي نص عليها الدستور، وتكريس لأصول جديدة تقضي بأن يعمل رئيس الجمهورية وحلفاؤه على تأليف حكومة، ثم تسمية المكلف تأليفها في الاستشارات. وقبل ذلك، كان إبقاء البلاد في شغور رئاسي على مدى عامين ونصف العام، لكي يسلّم الجميع بشعار "ميشال عون أو لا انتخابات". وهذا كله في إطار الشكل الذي يرمز إلى الجوهر ويقود إليه، وهو "نهاية" اتفاق الطائف عملياً، وإن بقي على الورق في الدستور. فالطائف في جوهره كان إنهاء "الثنائية المارونية – السنية" التي حكمت لبنان منذ الاستقلال لمصلحة المشاركة الكاملة لكل الطوائف وإنهاء الثنائيات. كيف؟ عبر إناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء مجتمعاً بعدما كانت منوطة برئيس الجمهورية الذي "يعيّن الوزراء ويسمي من بينهم رئيساً"، بحسب النص الدستوري قبل التعديل. وهو نص لم يطبقه بحرفيته أي رئيس في الجمهورية الأولى، بل كان يختار رئيساً مكلفاً ويعمل وإياه على تأليف حكومة. ومثل هذا يحدث حالياً خلافاً للنص الدستوري المعدل. والجديد هو العودة إلى الثنائية ولكن في إطار ماروني – شيعي.
وبكلام آخر، فإن الانقلاب الفعلي هو الانقلاب على ثوابت لبنان العربي في تراثه وثقافته وعلاقاته مع العرب والغرب، وأخذه إلى المحور الإيراني المسمى محور الممانعة. وعلى طريق هذا الانقلاب حدث ما كان متوقعاً: نهاية التسوية السياسية الرئاسية التي جاءت بالعماد عون إلى الرئاسة وأعادت الرئيس سعد الحريري إلى السراي الحكومي. أولاً عبر الخروج عن "تفاهم معراب" بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، أي بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" على دعم ترشيح عون للرئاسة وترتيب المواقع المسيحية في السلطة. وثانياً من خلال نهاية التفاهم بين عون والحريري. وثالثاً من خلال ما يعنيه خروج الحريري من السراي، وهو اهتزاز العنوان الذي أعطي لهذه المرحلة بما يضمن الرئاسة لعون: السلطة للقوي في طائفته، بحيث تكتمل السلسلة: عون لرئاسة الجمهورية ونبيه بري لرئاسة المجلس النيابي والحريري لرئاسة مجلس الوزراء.
أما التفاهم الثابت، فإنه "تفاهم مار مخايل" الذي وقعه عون وأمين عام "حزب الله" حسن نصرالله قبل أكثر من عقد. إذ لا مصلحة لأي من طرفيه في الخروج منه. وليس سراً تفضيل "الثنائي الشيعي" أي حركة "أمل" و"حزب الله"، الحريري كرئيس للحكومة العتيدة، لأسباب تتعلق بالحسابات الشيعية – السنية وبقدرة الحريري على التواصل مع العرب والغرب لجلب الدعم المالي. ومن غرائب اللعبة وعجائبها، إصرار العهد والثنائي الشيعي على تأييد الحريري لأي رئيس مكلف سواه.
لكن هذه اللعبة تواجه تحديين كبيرين: أولهما أنها تدور على مسرح مالي واقتصادي واجتماعي مهدد بالانهيار الكامل، إن لم تأتِ مساعدات عربية ودولية من شروطها إجراء إصلاحات جدية تنهي السياسات السيئة وتحد من الفساد والسرقة، الأمر الذي لم يحدث. وثانيهما أنها تواجه ثورة شعبية سلمية عابرة للطوائف والمذاهب فتحت باب التغيير الجذري، ولو خرجت من الشارع.
ومن الوهم إدارة لبنان والمال والاقتصاد بالعصا. و"نصر تحقَقَ بالقوة يساوي هزيمة، لأنه سريع الزوال" كما قال غاندي.