أعلن زعيم حزب العمال المعارض جريمي كوربن أنه لن يقود الحزب في الانتخابات العامة المقبلة، لكنه لن يترك رئاسة الحزب فورا وسيقود عملية اختيار خلف له لزعامة المعارضة. ورغم مرارة الهزيمة التي مني بها الحزب، إلا أن كوربن أراد في آخر مواقفه السياسية كزعيم للمعارضة أن يتحلى بالمسؤولية معتبرا أن من الخطأ "الهروب من مسؤولية" الهزيمة.
لكن تصريح كوربن حول تركه موقعه "بعد فترة تفكير وتأمل" لم تمنع بعض أعضاء الحزب المناوئين له من مطالبته بالتخلي عن رئاسة الحزب فورا. ويلتقي في ذلك الموقف من يعتبرون كوربن مسؤولا عما اتهم به الحزب من "عدم اتخاذ موقف جاد من معاداة السامية" داخله، وهي الحملة التي قادها حاخام الطائفة اليهودية في بريطانيا، مع بقايا "العمال الجديد" الموالين أصلا لتوني بلير.
مسؤولية الإعلام
كوربن في خطاب قبوله الفوز بدائرته، شمال ايزلينغتون، القى باللائمة في الخسارة الكبيرة لحزبه على حملة الإعلام عليه وعلى عائلته. وهذا صحيح نسبيا، إذ أنه غير الحملة الشخصية كانت هناك حملة تقاطع فيها أنصار اسرائيل في بريطانيا ممن يعتبرون أي نقد لاسرائيل "معاداة للسامية" مع أثرياء بريطانيا الذين خشوا تهديد مصالحهم بحكومة يقودها راديكالي مثل كوربن.
ولخص زعيم المعارضة الوضع من وجهة نظره بأن "التصويت في الانتخابات تم اختطافه من قبل البريكست"، وهذا صحيح تماما. والواقع أن خسارة العمال وفوز المحافظين الكبير كان متوقعا في ضوء وضوح موقف زعيم المحافظين رئيس الوزراء بوريس جونسون الذي نجح في جعل التصويت على "انجاز البريكست".
حتى الحزب الثالث في بريطانيا، الأحرار الديموقراطيون، كانوا واضحين في موقفهم المعارض للبريكست والمؤيد لبقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي. وكانت مشكلة كوربن الأساسية هي الغموض بشأن موقف حزب العمال من البريكست، وحتى التعخد باستفتاء ثان لم يأت إلا خلال الحملة الانتخابية وضمن البرمامج. لكن كوربن رفض بشدة ضغوط أعضاء كبار في الحزب من قبل لإعلان هذا الموقف (استفتاء ثان) وكذلك مطالب بعض أعضاء الحزب من المؤيدين للبقاء في أوروبا.
وفي موضوع البريكست تحديدا، بدا جريمي كوربن "ناشطا" أكثر منه سياسيا ولم تفلح محاولته "امساك العصا من المنتصف" حينما كان عليه أن يتخذ موقفا واضحا يثبت قدرته على القيادة – سواء للحزب أو الحكومة في المستقبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
برنامج راديكالي
يالطبع يقول انصار المحافظين والأعمال واسرائيل إن سبب خسارة العمال وحصوله على اقل عدد مقاعد في مجلس العموم (البرلمان) البريطاني منذ 1935 هو البرنامج الراديكالي الذي طرحه كوربن في الانتخابات المبكرة. لكن كوربن دافع عن البرنامج وأكد أنه وإن كان مسؤولا عن طرحه إلا أنه صيخ بموافقة واسعة داخل الحزب.
وهنا، يتقاطع معارضو كوربن دتخل حزب العمال مع منافسي الحزب من خارجه – محافظين أو غيرهم – في محاولة تحميل جريمي كوربن مسؤولية البرنامج الانتخابي المائل بشدة نحو اليسارية. لهذا، قال كوربن بعدما عبر عن حزنه على الخسارة الكبيرة في الانتخابات إنه لا يعتقد "أن أحدا من يسار الوسط (في الحزب) كان يمكن أن يقود إلى نتيجة أفضل".
هذا الأمر ليس أكيدا تماما، فلربما كان يسار الوسط هو المعادل الأفضل لاتجاه بوريس جونسون بالمحافظين نحو أقصى اليمين مقتربا من شعبوية وتطرف حزب البريكست لنايجل فاراج. وتلك مشكلة حزب العمال منذ انقلاب توني بلير في التسعينات الذي ذهب بالحزب أبعد من الوسط يمينا تحت شعار "العمال الجديد".
ومنذ فاز كوربن بزعامة الحزب عام 2015 لم تنته الصراعات داخل العمال، وتمكن الاتجاه اليساري من الغلبة بعد سنوات من سيطرة "البليريين" كما يسمى أنصار "العمال الجديد". ويتهم كوربن بأنه يميل أكثر لتيار نقابات العمال داخل الحزب، لكن الواقع أن النقابات التي تمثل العمود الفقري لحزب العمال ليست بهذه الراديكالية اليسارية.
مشكلة حزب العمال لن تنتهي بترك جريمي كوربن لزعامته، وإنما سيفتح ذلك باب خلافات مكتومة داخله ستجعل أي أداء أفضل له في أي انتخابات مقبلة مرهون بسوء أداء المحافظين في الحكم على مدى السنوات الخمس القادمة. ولعل قرار كوربن عدم ترك منصبه فورا ونقل القيادة لمن سيختاره أعضاء الحزب لخلافته يكون افضل من اضعاف المعارضة أكثر بخلافات داخلية في الحزب المعارض الرئيسي.
وهناك نقطة في غاية الأهمية على من سيتقدم لخلافة جريمي كوربن في زعامة المعارضة أن يأخذ منها درسا، وهي أن احدى مشاكل كوربن هي أنه لم يكن زعيما "توافقيا" ولا قادرا على التوصل إلى "حلول وسط" وتفاهمات. فلم يفلح في التعاون مع أحزاب المعارضة الأخرى كالاحرار الديموقراطيين والحزب القومي الاسكوتلندي لمواجهة المحافظين.
يرى البعض أن ذلك يعود إلى طبيعة الرجل كناشط مبدئي، وربما يكون ذلك صحيحا لكن أيضا يضاف أن السياسة تحتاج قدرا من البراغماتية التي لم تكن من صفات كوربن. وربما يكون الوقت قد حان فعلا ليتزن توجه حزب العمال بين اليسارية الراديكالية والاتجاه يمينا ليعود إلى مكانته في "التيار الرئيسي" للسياسة البريطانية ممثلا لقطاعات واسعة من الشعب البريطاني ربما لم تصوت له بسبب موقفها من زعيمه.