دولة سكانها الأصليون متأصلون في المهنة. الخوف يهابهم، والانزعاج يخاصمهم، والتوقف عن الدق على آلة التنبيه يقترن بهم، هم أصحاب الفقرات البهلوانية، والحركات الرياضية التي يخشاها ملوك الجمباز ولا يقبل على اقترافها إلا كل ذي قلب جسور. إنهم عمال التوصيل السريع، والمعروفون في العامية المصرية بـ"الطيار".
هم أبطال "دولة الدليفري" في مصر، تجدهم في كل شارع من شوارع المحروسة أفواجاً وجماعات؛ منهم من يمتطي دراجة نارية، أو يجاهد أعلى دراجة هوائية، أو يقود سيارة انتهى عمرها الافتراضي قبل عقود، أو أو "ثمناية" (سيارة ثمن نقل صغيرة، تعرف بالدارجة المصرية "تمناية".
الطيار في كل مكان
يراهم الجميع في كل مكان، لكن الغالبية تتعامل معهم باعتبارهم "خوذة ودراجة ودليفري" ، إنهم عمال توصيل الطلبات وأحيانًا البشر في مصر والذين يطلق عليهم "دليفري" أو "طيار" لا تستوقف تفاصيل عملهم وحياتهم إلا محيطهم. لكنه محيط تقدر أعداده بالملايين. في كل شارع وحارة وميدان في مصر، حفنة من المحال يعمل في كل منها عشرات من عمال الدليفري. مؤهلاتهم تتراوح بين شهادات جامعية، ومعاهد عليا ومتوسطة، وشهادات مدرسية.
محمد فتحي، 28عاماً، عامل دليفري في فرع محل مأكولات سريعة، عانى من البطالة لعامين متتاليين عقب حصوله على بكالوريوس التجارة قبل ست سنوات. تصور أن الشهادة التي يحملها تؤهله لوظيفة في بنك هنا أو مكتب محاسبة هناك. لكن الواقع كان مختلفًا.
يقول فتحي: "تصورت أن الشهادة هي غاية المنى والأمل، لكن اكتشفت أن كلتيهما ماتت". يضحك على النكتة السوداء التي ألقاها ويقول: "اكتشفت أن هناك الملايين مثلي، وسوق العمل لا تحتاج أكثر من عشرة بالمئة منا. وبعد عامين من التمسك بأمل الوظيفة المحترمة، عملت طياراً".
"الوظيفة المحترمة" التي يتحدث عنها فتحي تعني العمل المكتبي. لكن العمل المكتبي ولت أيامه وانتهى عصره في رأيه، وهو ما يعترف به فتحي وزملاؤه. ورغم التسليم بأن ما درسوه لا يمت بصلة لسوق العمل واحتياجاته، فإن شكواهم تدور في إطارات صحية وتأمينية واجتماعية ومستقبلية.
كف عفريت
مستقبل عامل الدليفري على "كف عفريت" كما يؤكد الجميع. ويبدو أن مسألة "العفريت" تبدأ بقواعد التشغيل، وتمر عبر شكاوى العملاء والزبائن التي قد تطيح بالعامل في لحظة، وتنتهي بجنون قيادة الدراجات النارية في شوارع المدن الكبرى وعلى رأسها القاهرة.
وفي القاهرة، يرى المتابع عجائب "الدليفري" ويسمع غرائبهم. فبين أصابع لا تبرح آلة التنبيه في صراخ مستمر لإفساح الطريق وتنبيه الجميع أنهم قادمون من كل حدب وصوب، إلى حركات بهلوانية حيث ينزلقون بدراجاتهم بأقصى سرعة ضاربين عرض الحائط بقوانين الطبيعة، ومن قبلها القوانين الوضعية الخاصة بالمرور، إلى صراع من أجل الوصول إلى العميل قبل مضي 30 دقيقة تجنباً لعقوبة التأخير وابتغاء إكرامية التبكير، وبين هذا وذلك يظل الصراع قائما.
آخر ما يتذكره محسن فهد، 32 عاماً، إن سيارة نصف نقل انحرفت فجأة صوب اليمين حيث بضعة سنتميترات بينه وبين الرصيف. يقول إن زملاءه صوروا الدراجة النارية التي كان يركبها وقد تحولت حطامًا، ووجبة الأسماك المفتخرة وقد تناثرت في كل مكان لتشكل وجبة فاخرة لقطط الشارع والشوارع المجاورة.
الإصابة التي خرج بها فهد من الحادث البشع جعلته حبيس بيته لأكثر من ستة أشهر، ناهيك عن محاولة صاحب محل الأسماك الذي خصم ثمن وجبة السمك المهدرة من راتبه الذي لم يكن يتجاوز الـ800 جنيه مصري في الشهر (نحو 50 دولارًا أميركيًا)، لولا تدخل زملائه. وبعد الأشهر الستة، وجد نفسه عاجزاً عن قيادة الدراجة النارية مجدداً بعدما خلف الحادث مشكلة مزمنة في التوازن.
التوازن بين متطلبات عمل "الدليفري" الملقب عن جدارة بـ"الطيار" من ليونة بدنية تتيح له "الطيران" بين سيارات الشارع المتراصة، ولياقة عصبية تسمح له بالتعامل مع عمله باعتباره مهنة شديدة الخطورة، إما عاد منها سالماً أو ينتهي به الحال في قسم الطوارئ بأحد المستشفيات.
غير قابل للحصر
استحالة حصر العمالة غير المنتظمة تترك أبواب مهنة "الدليفري" مفتوحة على مصراعيها. فهي مهنة تنتهي إما بالتقدم في العمر أو الإصابة البالغة في حادث سير أو إخضاعها للقوانين. وزارة القوى العاملة أطلقت قبل أشهر قليلة حملة لحصر العمالة غير المنتظمة، بهدف إعداد قاعدة بيانات تتيح للدولة توفير الرعاية لهذه الفئة "المهمة" في المجتمع، وأسفرت عن حصر ما بين 10 و14 مليون عامل غير منتظم، وفقا لوزير القوى العاملة المصرية محمد سعفان.
فقد جرى العرف على مدار العقدين الماضيين، أن الغالبية المطلقة لا تعمل بعقد، وغير مؤمن عليها، ولا يربط بينها وبين مكان العمل إلا تلك الدراجة البخارية أو الهوائية. والرصد والتوثيق والحصر تعني بالنسبة لأصحاب المحال دفع تأمينات وسداد مستحقات وامتناع عن التسريح دون وجه حق، وهو ما يتخوفون منه.
دافعو ال"تيبس"
دافعو الإكرامية، أو "البقشيش"؛ التيبس"، القليل منها والكثير وراء ابتكار جديد ظهر في سوق العمل في مصر؛ إذ بدأ بعض الشباب يبتكر مشروعات "دليفري" دون تحديد محتوى المنقولات، ففي مدينة الشروق المتاخمة للقاهرة، تتشارك مجموعات من الشباب في اقتناء سيارات صغيرة مستعملة، أو تروسيكلات (مركبة بثلاث عجلات)، ويقدمون خدمات التوصيل للسكان.
يقول أشرف مكي، 21 عاماً: "نوزع بطاقات تحمل أرقام هواتفنا المحمولة على أبواب السوبرماركت والمخابز وغيرها، حيث نقدم خدمة شراء وتوصيل الطلبات للبيوت، لا سيما في ظل عدم وجود شبكة مواصلات داخلية في المدينة".
يقول مكي: إن أغرب توصيلة أنجزها كان توصيل شخص من بيته إلى بيت ابنته. اتصلت بمكي الابنة، وطلبت منه التوجه إلى عنوان أبيها، وتوصيله إلى عنوانها. وحين حاول أن يقنعها بأن خدماته تتعلق بتوصيل الطلبات، باغتته بقولها: "وأنا طالبة توصيل بابا". وقد أذعن مكي للطلب، وحاسب الابنة على توصيل الأب بحساب المسافة".
مسافات طويلة يقطعها سكان "دولة الدليفري" في مصر، آلاف الكيلومترات يقطعها شباب هربوا من البطالة إلى أحضان عالم توصيل الطلبات، لكنهم مازالوا يحملون بالإضافة إلى الطلبات أحلاماً وآمالاً بوضع أفضل لهم في المستقبل.