منذ وهلة التخطيط، والمهلة التي حددها الشباب لحكومة بغداد طيلة سبتمبر (أيلول) 2019، إلى انطلاقة التظاهرات السلمية في الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، وتجددها في الـ25 من ذلك الشهر، واستمرارها حتى يومنا هذا، إذ سقط فيها أكثر من 530 ضحية ونحو 20 ألف جريح ضمنهم ثلاثة آلاف معاق، والشباب المنتفضون يقولون إنهم يتحركون بشكل طوعي.
إذا كان وعي الشباب وثقافتهم على المستوى الشخصي، وكذلك جذورهم على المستويات الاجتماعية والتاريخية والحضارية تمكنهم من إدارة أنفسهم بأنفسهم ذاتياً، ولذلك خططوا ونفذوا وشكلوا اللجان التنسيقية في المحافظة الواحدة، وفي الربط بين بقية المحافظات، فهل كل هذا المجهود العملي والميداني بلا قيادة؟ لا أتصور.
قد نفهم، بل ونبرر السبب بعدم الظهور العلني لقيادات الحراك الشعبي في هذا الوقت، فالمرحلة ما زالت تمرّ بمخاض عسير، ولا أحد يستطيع التكهن بنتائجها النهائية، خصوصاً أن الناشطين والمتظاهرين السلميين يتعرضون للخطف والاغتيال والاعتقال على نحو تصاعدي، وشكلت قلقاً كبيراً داخلياً وخارجياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما يزيد من خطورة الوضع الموقف الحكومي، الذي قالت فيه منظمة العفو الدولية "السلطات الحكومية في العراق مفتقرة بشكل مطلق للتحرك الجاد لحماية المتظاهرين، ومهَّدت بالرضا أو التواطؤ لحملة قاتلة متنامية من المضايقات والتخويف والاختطاف والقتل المتعمد للنشطاء والمتظاهرين في بغداد وغيرها من المدن".
وكذلك قول المرصد الأورومتوسطي، إن "الحكومة العراقية هي مَنْ تتحمل مسؤولية الحفاظ على سلامة الناس وأمنهم، وعليها أن تقوم بواجباتها وفق مقتضيات القانون، وأن تتصدى لعمليات الاختطاف بمختلف أشكالها، التي تنفذها قوات نظامية على ما يبدو".
بلا أدنى شك، إن هذا الوضع الخطير يعيق الصحافي أو الباحث من أن يجري تحقيقاً ميدانياً، لا سيما في ساحة التحرير مركز العاصمة بغداد والثقل الأكبر للمتظاهرين والمعتصمين من العراقيين. إلّا أن ذلك لا يمنع من إعطاء صورة توضيحية عن الواقع الميداني، فالشباب يتوزعون في حشودهم حسب الإطار الذي يعملون فيه، سواء أكانوا مستقلين منتظمين أو منتمين إلى جهة سياسية أو إفرازات عامة ضد سنوات الفساد منذ العام 2003.
إن السواد الأعظم من الشباب الثائر هم مستقلون، رفعوا شعار "نريد وطناً"، وطالبوا بإسقاط النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية والعرقية، وحل البرلمان وإلغاء الدستور وإنهاء دور أحزاب الفساد الموالية لإيران، كما أن غالبية هؤلاء الشباب من الطبقة المتعلمة، معهم نسبة كبيرة من الأساتذة والأكاديميين والناشطين والحقوقيين، يتوزعون في ساحات التحرير والخلاني والوثبة، والأماكن المتصلة بها وبجسورها: الجمهورية والسنك والشهداء.
ولقد زجّ أتباع التيار الصدري أنفسهم بين المتظاهرين، فمنهم جماعة تميّزت بالقبعات الزرقاء، وتحيط بمداخل ساحات التحرير والخلاني والوثبة، ومداخل جسرْي الجمهورية والسنك ومحمد القاسم من جانب الشيخ عبد القادر الكيلاني، من "سرايا السلام" التابعة لمقتدى الصدر.
المسؤول عن جميع هذه المنافذ المؤدية إلى ساحات الاحتجاجات والاعتصامات هو القيادي بالسرايا الحاج عباس جليل العتبي، وبمعاونة مسؤولي المنافذ صلاح نعمة وحسين عمران ومحمد عبد الزهرة وغيرهم، وجماعة خاصة أخرى تتمركز في البناية (المعروفة بالمطعم التركي) المطلة على ساحة التحرير، ذات الموقع المركزي المهم.
وينتشر الشيوعيون، بشقيهم المشترك بالسلطة وفسادها وغير المتورطين فيها، وجماعات شبابية أخرى غير متحزبة، سواء التي تجمَّعت وفقاً إلى مناطقها السكنية، أو التي تضع قناع البهلوان "الجوكر" على وجهها تعبيراً عن رفضها الواقع جملة وتفصيلاً، وميولها نحو الليبرالية الغربية، ويقال أيضاً إنها مجرد عصابات مندسة تابعة لأحزاب الفساد، وكذلك وجود جهود متفرقة لتكتلات شبابية عاطلة عن العمل، وهم الأقل فاعلية من حيث الترتيب والتواصل الميداني.
وهناك تساؤلات يعرف أجوبتها البعض، ويختلف فيها البعض الآخر، تلك التي تتعلق بوجود البعثيين الخفي، خصوصاً أن أسلوبهم وطابعهم، بصورة أو أخرى، ملحوظ في الحراك الشعبي وعلى امتداد المحافظات المنتفضة. فإيران وأذرعها الممسكة بالسلطة، تتربص بالبعثيين بشكل جنوني، لذلك تم اغتيال 68 بعثياً في غضون ستة أسابيع، قسم منهم من الكادر المتقدم الذين سرعان ما عادوا من الخارج، تم رصدهم وتصفيتهم جسدياً، وهذا يكشف مدى عمق التوغل الأمني الإيراني.
أمَّا أين يتجمع ويتحرك البعثيون؟ فمن الواضح أنهم منتشرون بين جماعات المستقلين المنتظمين، الذين يشكلون الغالبية الكبرى من المنتفضين، لذلك يصعب فرزهم من جهة، ولا يمكن للقوات الأمنية أن تعتقل مئات الآلاف من الناس. إنه تحد يخاطر فيه كل مَنْ يؤمن بعدالة قضيته. وبما أن الأمين العام للحزب عزة إبراهيم، أشار في أحد خطاباته عام 2010 إلى أن "السلطة تحت أقدامنا"، وأن العلم العراقي الحالي التف حول أجساد الشهداء، لذلك صارت القوة البعثية تتفاعل في وسط هذا الحقل المستقل، إذ تحس بوجودها من دون أن تحدد موقعها.
عموماً، فإن جميع الجهات المشتركة في هذا الحراك الشعبي تتعاون مع بعضها البعض، من خلال لجان تنسيقية لتنظيم التظاهرات وديمومة الاحتجاجات، ويستثنون من عملهم التنسيقي جماعة الصدريين، إذ يَعدّونهم دخلاء على ثورة تشرين، وأنهم جزء من النظام السياسي الفاسد.
إذاً، فإن "تنسيقية ثورة شعب العراق" و"اللجنة المنظمة لتظاهرات ثورة تشرين" وغيرها، إنّما هي قيادات ميدانية تمتلك كل منها هيكلية داخلية تعمل ضمن توجه مشترك يهدف إلى تعزيز ونجاح هذا الحراك الشعبي ضد أحزاب الفساد والهيمنة الإيرانية، ما يعني أن تلك القيادات الميدانية أو لبعضها، امتداد قيادي أعلى خارج نطاق دائرتها المحدودة، وهذا ما يجعلها أكثر خطورة، ما دفع علي خامنئي وغيره أن يتهمها بالعمالة للأجنبي، إلّا أنها قيادات عراقية تريد استرجاع الوطن المختطف من الزُمر الفاسدة، وتحريره من مخالب القبضة الإيرانية، وإسقاط العملية السياسية برمتها، والتي تتطلب تضحيات جسام بالأنفس والأرواح، وهذا ما فعله وما زال يفعله الجيل الصاعد، الذي ينفذ عملية التحرير بطريقة سلمية صلبة ومتماسكة، ما يعني وجود قيادة تخطط.