الملايين التي خرجت يوم الخميس 19 ديسمبر (كانون أول) في شوارع المدن السودانية احتفالاً بالذكرى الأولى لثورة ديسمبر، مثلت استفتاءً لا مثيل له من قبل الشعب السوداني. استفتاء يعبر عن الروح الثورية التي بدت واضحةً في الحراك والاحتفالات، على الرغم من الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والصعبة جداً.
إن روح ديسمبر التي عكست وعياً جديداً كشفت عنه مئات الآلاف من البوستات على وسائل التواصل الاجتماعي وما ظهر فيها من إصرار كبير على تجديد جذوة الثورة وتأكيد الثقة في الحكومة الانتقالية، على الرغم من جوانب القصور التي صاحبت بعض أوجه نشاطهاــ تدل دلالة واضحة على أنه بات من المستحيل العودة إلى الوراء بعد المسار الذي خطته ثورة ديسمبر بفرادتها وابتكارات تخطيطها وجسارتها التي ألهمت العرب والعالم (كما نرى في بعض التدابير الثورية في لبنان والعراق).
لقد أحدثت الثورة السودانية تغييراً كبيراً في نفوس الناس، ولا سيما الشباب والأطفال، ويمكن رصد هذا التغيير في السلوكيات التي تنعكس قناعاتها حساً فردياً يقوم على المسؤولية الشخصية في التصدي لقضايا الحق العام، عبر قصص طالما رواها الأمهات والآباء عن وعي الشباب المفاجئ خلال شهور الثورة وحتى الآن.
إن روح ديسمبر تمثل اليوم سردية جديدة للسودانيين عن وطنهم. فالإحساس بامتلاك الوطن هو شعور دافع لفعل كل ما يعكس تمثلات ذلك الحب والسعي من أجل تحقيقها عبر العمل الوطني الخلاق.
لقد بدا الحزن الشخصي الممزوج بالدموع في وجه كل تلميذة من تلميذات مدرسة ابتدائية كنّ ينشدن أغنية ترثي شهداء مجزرة 3 يونيو (حزيران) أعمق من أي تعبير أو صورة لما يمكن أن نتخيله عن روح ديسمبر.
إن الحزن الشخصي لتلميذات المدرسة الابتدائية (كما تجلى في إحدى مقاطع الفيديو) على شهداء الثورة كان معبراً عن شيء جديد؛ لا يمكن تفسيره إلا على نحو نقيض لما كان سائداً طوال ثلاثين عاماً بين تلميذات المدارس.
إن اليقين الذي أدركته شخصياً بعد خروج الملايين إلى الشوارع يوم الخميس سيبدو معه كل التفاف على الثورة مجرد ألاعيب مكشوفة، سواءً كانت تلك الألاعيب من قبل سياسيين أو من قبل عسكريين.
كل انفعال شخصي ينعكس من خلال التفاعل مع قصايا وطنية عامة كالحرية والعدالة والسلام، هو مؤشر عميق الدلالة إلى أن الوعي الفردي بدأ يشغل حيزاً كبيراً في نفوس السودانيين.
الملفات المفتوحة كثيرة، والاستحقاقات المقبلة أكثر، لكن أهم تحدٍ سيعترض الثورة هو شرط النقد البناء في هذه الشراكة التي أصبحت ممكنة بين الشعب وبين الحكومة التي تقود المرحلة الانتقالية.
في كل احتفال تجديد للروح، ونظن أن المواكب المليونية التي خرجت يوم الخميس الماضي هي بمثابة رسالة واضحة جداً للتحالف الحاكم (تحالف قوى الحرية والتغيير) الذي يقود المرحلة الانتقالية. لأن خروج الملايين إلى الشوارع لا يمكن أن تتم قراءته في الإطار الاحتفالي فحسب، بل هو كذلك استعراض لقوى الشعب الحية، وتذكير دائم بمصدر السلطات الذي صنع الفرق.
لقد ورثت الثورة السودانية أسوأ نظام يمكن أن تتخيله أسوأ الكوابيس. فالنظام الذي خرج فساده عن أي إطار، أصبح علامةً واضحة ليس فقط على التفسخ والفساد بل كذلك على التبجح الذي يضخ عمى أيديولوجياً لا يمكن الشفاء منه أبداً، فبعد كل هذا الخراب والدمار الذي أصبح عليه السودان منذ ثلاثين سنة بفعل انقلاب 30 يونيو 1989 نرى هناك من يتبجح حتى الآن في لقاء صحافي بأنه كقيادي في المؤتمر الوطني ليس نادماً على انقلاب العام 1989.
هكذا تبجح أمين حسن عمر، فيما هو يدلي برأيه هذا إلى صحيفة سودانية في عهد الثورة والحريات!
ومنذ أن استلمت الحكومة الانتقالية السلطة قبل 3 أشهر، يتبرم كثيرون من سوء الأوضاع التي ازدادت بطبيعة الحال، فتستغلهم عناصر الثورة المضادة لتتلطى من ورائهم وتحركهم كما تشاء.
ففي يوم 14 ديسمبر الماضي حشد أنصار النظام البائد مسيرة زعموا أنها ستكون مليونيه (الزحف الأخضر) وتصحيحاً للثورة، تزامناً مع النطق بالحكم على الجنرال البشير في المحكمة بتهمة الاتجار بالعملة، فتمت المسيرة وضمنت لها القوات النظامية التأمين المطلوب وانتهت من دون أن تحشد سوى الآلاف، ومن دون أن يصاب أحد أو يخاف!
وإذ عبرت الثورة السودانية عامها الأول من دون أن تصاب بنكسة، كما راهن كثيرون، إلا أن الطريق أمامها طويل لتصحيح خطايا ثلاثين عاماً من الخراب.
خروج الشعب السوداني بالملايين في شوارع المدن السودانية في الذكرى الأولى لثورته المجيدة كان رهاناً على الثورة في ظروف اقتصادية حالكة وتكاد لا تعين أحداً على شيء. لكن اليقين الذي أخرج السودانيين إلى الحلم بغد أفضل، على الرغم من الشدة والضيق، هو يقين أقل ما يقال عنه إنه يقين الصابرين. فإذا اهتز هذا اليقين في الحكومة فسيكون الحل الوحيد أن تترجل الحكومة لتحل محلها حكومة ثورية أخرى قادرة على تلبية أحلام السودانيين. لكن ليس أبداً ثمة عودة إلى الوراء!