استبشرَ اليمنيون خيراً بتوصّل كلٍّ من الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي للتوقيع على (اتفاق الرياض) برعاية الجارة السعودية في الـ5 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لوضع حدٍ للاضطرابات الدامية التي شهدتها عدن وعدد من المحافظات الجنوبية خلال شهر أغسطس (آب) الماضي، ونتج عنها سقوط عشرات الضحايا، وسيطرة تامة لـ(الانتقالي) على العاصمة اليمنية المؤقتة عدن، وعدد من المحافظات المجاورة لها.
غير أن واقع الحال بعد مرور 40 يوماً على توقيعه في قصر اليمامة برعاية الملك سلمان بن عبد العزيز، وحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد، ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، يؤكد مروره بجملة من العراقيل التي أخّرت سير تنفيذه على النحو الذي رسمته ملاحقه التي تضمنت خططاً تفصيلية مزمّنة لتنفيذه.
كما لم يعد خافياً التذمر التي أبداه كثيرٌ من المتفائلين بتنفيذه على أمل أن يؤسس لتسوية سياسية شاملة باليمن.
بنود متعثرة
وبالنظر إلى جملة العوامل التي عملت على تعثر تنفيذه، نجد من بينها مرور أكثر من شهر ونصف الشهر على بند تشكيل حكومة كفاءات سياسية لا تتعدى 24 وزيراً، مناصفة بين المحافظات الجنوبية والشمالية، خلال مدة لا تتجاوز الـ30 يوماً من توقيع الاتفاق، إضافة إلى تعيين الرئيس محافظاً ومديراً لأمن محافظة عدن خلال 15 يوماً من تاريخ التوقيع، وتعيين محافظاً لمحافظتي أبين والضالع (المحاذيتين لعدن) خلال 30 يوماً من تاريخ التوقيع على الاتفاق، وهي البنود التي لم ترَ النور حتى الآن.
أمَّا فيما يتعلق بالملحق العسكري من الاتفاق، فنرى تعثر تنفيذ بند عودة جميع القوات (التي تحرَّكت من مواقعها ومعسكراتها الأساسية باتجاه محافظات عدن وأبين وشبوة منذ بداية شهر أغسطس 2019) إلى مواقعها السابقة بكامل أفرادها وأسلحتها، وإحلال قوات الأمن التابعة للسلطة المحلية في كل محافظة خلال 15 يوماً من تاريخ التوقيع.
تصريحات تتنافى والتهدئة
هذه العراقيل عبّرت عنها تصريحات متواترة من الجانبين تبادلا فيها التهم بعرقلة الاتفاق، وهو ما يعدّ مخالفة صريحة لأحد بنود الاتفاق الذي يستند إلى عددٍ من المبادئ، أبرزها "الالتزام بحقوق المواطنة الكاملة، ونبذ التمييز المذهبي والمناطقي، ووقف الحملات الإعلامية المسيئة".
إذْ اتهم وزير الخارجية اليمني محمد الحضرمي، الاثنين الماضي، المجلس الانتقالي الجنوبي، بـ"عرقلة" تنفيذ اتفاق الرياض.
جاء ذلك خلال لقائه، في الرياض، سفراء مجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن المعتمدين لدى اليمن، وفق وكالة الأنباء اليمنية الرسمية "سبأ".
وقال الحضرمي، "مع الأسف توجد بعض العراقيل التي يضعها المجلس الانتقالي في طريق تنفيذ الاتفاق وعمل الفريق الميداني، وبعض الخروقات والاستحداثات التي تعيق إحراز أي تقدّم في الترتيبات الأمنية والعسكرية المشار إليها في الاتفاق وملاحقه".
وأفادت الوكالة بأن اللقاء جاء "لمناقشة المستجدات على الساحة اليمنية، لا سيما مسار تنفيذ اتفاق الرياض بين الحكومة والمجلس الانتقالي، والخطوات والجهود المبذولة من الحكومة، والعراقيل التي تحول دون التسريع في تنفيذ الاتفاق".
وذكر أن هناك "فريقين مشتركين للمتابعة والتنسيق من أجل متابعة تنفيذ الإجراءات والترتيبات الكفيلة بتنفيذ اتفاق الرياض".
لغة الانفصال لا تزال حاضرة
مراقبون رأوا أن تصريحات الوزير اليمني جاءت ردّاً على حديث "رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي" عيدروس الزبيدي الذي أشار في خطاب له، إلى أنه "لا رجعة عن هدفه في انفصال جنوب اليمن عن شماله"، وهو ما يتنافى والمرجعيات الرئيسية لاتفاق الرياض التي بُني عليها، ومنها المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني اليمني والقرارات الأممية ذات الصلة التي تنص، جميعها، على "وحدة اليمن".
تصريحات الزبيدي جاءت خلال اجتماع موسّع عقده في مدينة عدن (جنوب)، وضم عدداً من القيادات والمسؤولين في "الانتقالي الجنوبي".
وحسب الموقع الإلكتروني الناطق باسم المجلس، قال الزبيدي في الاجتماع، "الجنوب وقضيته أصبحا أمراً واقعاً ورسمياً لدى المجتمع الدولي والإقليمي".
وأضاف، "هدفنا استعادة دولتنا كاملة السيادة التي بُذِلَ من أجلها كثير من التضحيات".
وشدد على أنه "لا رجعة عن هذا الهدف"، (انفصال جنوب اليمن عن شماله الذي أعيد توحيده في العام 1990).
وأشار إلى أن "اتفاق الرياض يعد مكسباً وانتصاراً سياسياً لشعب الجنوب وقضيته، بمباركة دول العالم للاتفاق واعترافهم بتمثيل المجلس الانتقالي لشعب الجنوب في المحافل الدولية".
ونوّه الزبيدي إلى أن "استجابة المجلس الانتقالي إلى حوار الرياض، جاء بناءً على دعوة رسمية من أعلى المستويات بالسعودية، وكانت إحدى تجلياتها المستوى الرفيع الذي يليق بالجنوب ودولته".
مضيفاً، "نحن نحمل قضية شعب، وليس منصباً هنا أو وزارة هناك"، في إشارة إلى التمسُّك بمطلب انفصال الجنوب اليمني عن شماله اللذين أعيد توحيدهما في العام 1990 كواحدٍ من أبرز الخيارات التي يرفعها المجلس.
تحذيرات من الانهيار
المخاوف من عرقلة الاتفاق الذي مثّل بارقة أمل، وفاتحة موضوعية لسلام شامل في اليمن، عبّر عنه الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، الخميس الماضي، بقوله إن "تنفيذ اتفاق الرياض بشكل كامل يُعدّ المدخل الأساسي لعودة الدولة، وتثبيت سلطاتها وتعزيز الوحدة الوطنية".
تبعه في اليوم التالي تحذيرات أطلقها المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث، مما وصفه "خطورة انهيار اتفاق الرياض".
وفي ردّه على الأسئلة التي تحدّثت عن تعثر الاتفاق، أجاب غريفيث "أعتقدُ أنه من المبكر بعض الشيء القول إن هذه الاتفاقية لا تسير على ما يرام".
وأضاف، خلال تصريحات له مع الموقع الإلكتروني، لـ"أخبار الأمم المتحدة"، في ذكرى مرور عام على توقيع اتفاق ستوكهولم، "تواصلت بالأمس بينما كنت متوجهاً إلى نيويورك مع كبار المسؤولين في الحكومة السعودية حول احتمالات تطبيق اتفاق الرياض، الذين توسطوا لإبرامها، وأكدوا لي أنهم يحرصون على ذلك".
واختتم محذراً "إذا انهار اتفاق الرياض، أعتقد أنها ستكون ضربة مدمرة لليمن".
لغة التحذيرات من الانهيار ذاتها جاءت هذه المرة على لسان عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي أحمد لملس، الذي دعا من وصفهم بـ"العقلاء" في الحكومة أن يحددوا موقفهم من "التمرد على اتفاق الرياض"، على حد تعبيره.
لكنه توعّد، من على صفحته في (تويتر)، قائلاً "أمامنا خيارات مع قوى وطنية يهمها استقرار الجنوب وتحرير الشمال من ميليشيات إيران تحت مظلة التحالف العربي".
الحرص على التنفيذ
"الانتقالي" بدا كمن يتجنّب الردّ الرسمي المباشر على اتهامات الحكومة اليمنية التي جاءت على لسان وزير الخارجية وعدد من المسؤولين الحكوميين الآخرين، واكتفى "الانتقالي" بتأكيد حرصه على تنفيذ بنود الاتفاق.
وفي لقاء جمعه في الرياض بالسفير الصيني لدى اليمن، أكد عضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي، عضو فريق اللجنة المشتركة لمتابعة إجراءات تنفيذ اتفاق الرياض، ناصر الخبجي، حرص المجلس على "تنفيذ كل بنود اتفاق الرياض، لأهميتها في تحقيق مزيد من التقدم في إطار عملية سياسية شاملة تنهي الحرب وتؤسس لحلول لقضية شعب الجنوب".
إلا أن رئيس العلاقات الخارجية في الانتقالي الجنوبي عيدروس النقيب، اتهم، في مقال نشره على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، من سمَّاها "بعض أطراف الشرعية" بعدم رغبتها في "الوصول إلى تجسيد فعلي لمضامين الاتفاق على الأرض".
ويستدل النقيب بمعطيات قال إنها "عرقلت تنفيذ اتفاق الرياض"، ومن بينها، حسب حديثه، عدم تنفيذ النقطة الأولى المتعلقة "بتفعيل الخدمات في عدن وتسليم مرتبات موظفي الدولة وعدم تعيين المحافظين ومديري الأمن في المحافظات" التي نصّ عليها الاتفاق، "وعدم سحب القوات (الغازية) محافظتي أبين وشبوة واستبدالها بقوات الأمن المحلية"، على حد قوله.
إضافة إلى "عدم الشروع في الإجراءات العملية فيما يتعلق بإعادة بناء المنظومة العسكرية والأمنية" وفقاً لاتفاق الرياض، فضلاً عن "عدم تشكيل حكومة الكفاءات وغير هذا كثير".
وفي ردٍّ ضمني على الدعوات التي تطالب بعدم عودة الرئيس هادي إلى عدن قبل تأمينها بشكلٍ كاف، قال النقيب "الرئيس هادي عندما قَدِمَ إلى عدن في العام 2015 كان بمفرده، وربما بصحبة عدد أقل من أصابع اليدين من المرافقين، ولم يتعرَّض إليه الجنوبيون، بل تسابقوا للدفاع عنه، والتصدي لمن حاولوا تصفيته".
واختتم حديثه، "التحالف العربي الراعي اتفاق الرياض أمام تحدٍ حقيقي وجاد يتمثل في إمَّا أن يكون هناك شيء اسمه (اتفاق الرياض) وإمَّا لا يكون، والتحالف وحده من سيخسر أدبياً ومعنوياً في حالة فشل الاتفاق"، على حد تعبيره.
انتهاكات معرقلة
ما يعزز من دوافع قلق رعاة الاتفاق واليمنيين ومحبي السلام، بقاء الوضع الحقوقي على نحو يُسهم في إفراغ مضمون الاتفاق من محتواه الداعي إلى التهدئة واحترام حقوق الإنسان.
إذْ اتهمت منظمة (هيومن رايتس ووتش)، القوات التابعة إلى "الانتقالي الجنوبي" باعتقال وإخفاء ما لا يقلّ عن 40 شخصاً في محافظة عدن خلال الأشهر الماضية.
وفي بيان صادر عنها، دعت المنظمة الدولية إلى إطلاق سراح المحتجزين تعسفياً وتعويض الضحايا ومعاقبة المسؤولين الذين ارتكبوا هذه الانتهاكات أو أشرفوا عليها، حسب الاقتضاء.
وذكر بيان المنظمة توثيقها شهادات تروي كثيراً من الانتهاكات التي ارتكبتها هذه القوات في الأشهر الأخيرة.
يأتي ذلك بالتزامن مع اتهامات لـ"الانتقالي" بالتصعيد ضد تطبيع الأوضاع في كلٍّ من عدن ومحافظة شبوة (شرقي البلاد) كواحدة من أهم بنود الاتفاق الجوهرية، ومن بينها قيامه مؤخراً بإخراج مناصريه في مظاهرات تطالب برحيل الحكومة عن عدن.
وفي مؤشرٍ على بقاء حدة التوتر الإعلامي بين الجانبين، عبّرت اللجنة الأمنية بمحافظة شبوة عن "أسفها للممارسات التي تقوم بها القوات التابعة للمجلس الانتقالي"، التي تتمثل بحجز "قاطرات المشتقات النفطية والشاحنات التابعة لأبناء شبوة في منطقة العلم"، منوهة إلى أن "ثقافة التقطع هي ثقافة بربرية همجية لا يفتعلها إلا الخارجون عن القانون".
حرف مسار الاتفاق
يتساءل البعض عن مآلات تعثّر الاتفاق وموقف السعودية من محاولة عرقلته، باعتبارها قائدة تحالف دعم الشرعية، وراعية السلام والاتفاقيات السياسية التاريخية في اليمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن هذا يقول الباحث السياسي ثابت الأحمدي، إن اتفاق الرياض "سيلحق اتفاق ستكهولم ما لم تتدارك السعودية الأمر، وتعمل على سرعة إنقاذه ودفعه في طريق التنفيذ، باعتبارها قائدة التحالف والجارة والشقيقة الكبرى لليمن وارتباطهما بمصير واحد".
ويعدد الأحمدي بعض المعطيات التي برأيه تؤثر على المسار السياسي، منها "عودة قيادة المجلس الانتقالي بعد الاتفاقية مباشرة، وتصرّفهم كما لو أنهم دولة مستقلة، وما نلمحه من رسائل تمثّلت برفع العلم الجنوبي (علم دولة جمهورية اليمن الديموقراطية قبل إعادة الوحدة اليمنية) دون علم الجمهورية اليمنية، ناهيك بالنشاط اليومي لعيدروس الزبيدي (رئيس المجلس الانتقالي) الذي منح نفسه لقب الرئيس ومعه ميليشياته الانفصالية".