عندما يرى الشاعر الشاب المنخرط في فعل احتجاجي، أقرانه وأهله مُتجمهرين في الساحات، فهو لا يحسب التظاهر فعلاً تطهريّاً ممّا عاشه ورضي به من واقع، إنّما لحظة ولادة جديدة له ولبلده. رفضه الموثّق لما حوله في نصوص وكتابات يلتقي هذه المرّة مع إحساسه بالوجود بين الآلاف والملايين، يحاول التماسك بين زحمة المخنوقين بالغازات المسيلة للدموع، يريد أن يلتحق بحشود التهمت وحش الخوف في دواخلها، يفك سرّ هذا الالتهام المباغت ببصيرته. ثباته على موقفه الذي هو تحصيل حاصل لقوّة اليأس العدميّة، آتٍ من عدم الثقة بأيّ موجود من المركزيات المتعدّدة التي ضيّعته وصار اليوم في مواجهتها بهتافاته وخطواته. فالصوت المُطالب والمسير "المهدّد" صوب الساحات، قارب نجاته الأخير من أجل وطن يريده، غير تلك الخريطة المبتلاة التي هدّمت كيانه هو ومن سبقه العيش في حدودها.
كثيراً ما كان الشعر في الشوارع، تردّده النفوس المقهورة ويضعه المحتجّون في لافتاتهم الصادقة، لكن- في أيّامنا هذه- أنفاس الشعراء الجدد وحتّى أجسادهم تسبح في هواء جيلها الصاعد، حيث لا ادعاء في قيادة الشبان أو تصدّر حراكهم، لعلّه زمن الأفراد، فكلّ صوت يقود ذاته بذاته.
الشاعر في الحياة العراقيّة عامّة، أعزل في محيط من الصخب والأخطار، وهو في الساحات صوت من أصوات عراقيّة تريد استرداد بلدها، وإن تأخرت هذه المحاولة كثيراً.
هنا آراء شعراء عراقيّين شباب عن وجودهم في ساحات التظاهر وكيف تلقّوا الحدث التشريني الذي صنعته بسالة الفتيات والفتيان، بحثاً عن مصير آخر للناس وتأسيساً لتاريخ جديد لبلاد الرافدين، بعضهم يسميها ثورة وبعض آخر يجدها انتفاضة، وهذا التباين يحتاج إلى تفصيل وشرح في مناسبة لاحقة.
آلاء عادل (من مواليد بغداد 1989): فكرة الوطن الواحد
ليس الشاعر أو الشاعرة بعيدين من الانتفاضة، بل يعيشان أيّامهما هذه في الساحات مندهشين من نفسهما ومن الآخرين في الوقت ذاته. فقد فجّر الحدث الحالي ذواتنا وانفتحنا على فكرة جديدة كانت شبه مستحيلة، هي فكرة الوطن الواحد. بالطبع، تحطّم الكثير من الخطوط الحمر، أهمّها خطّ الخوف من الآخر والاعتقاد بأنّنا أفضل منه وأحقّ منه بالحياة، أما بالنسبة إلى الخطوط التي لم نتجاوزها بعد، ففي الأقلّ بَهَتَ لونها.
وائل السلطان (من مواليد كربلاء 1996): خطاب عشاق وشعراء
أكتب هذه المشاركة مُباشرة من ساحات التظاهر... أكتب عن اللغة التي لا يمكن أن تُكتب. اللغة التي يقولها العراقيون بأجسادهم وصدورهم العارية أمام الموت. إنّها لغةٌ عظيمة، لغة العراق من الداخل، من دموع ودعاء الأمهات إلى براءة الأطفال وتسلقهم عبر ضحكاتهم وهتافهم لجدار الوطن الشاهق. إنّنا بكينا كثيراً عندما مرّ الشهداء بين أيدينا ليسبقوننا إلى جنّة الوطن الواحد.
يحملون علم العراق وحده، لا شريك ولا شريكة، يتسابقون بهذه الروح التي لم نعرف روحاً مثلها من قبل، لم نرَ ضحكاتٍ تشبهُ هذه ولا دموعاً تلمعُ من القلب كهذه الدموع.
شباب العراق يؤسّسون لحظة مفارقة بين ما قبل الثورة وما بعدها، لحظة قطيعة ثقافية واجتماعية وضربة معرفية عالية. لم يتوقع أشدّ المتفائلين بالوطن العظيم أن يقول الشعب كلمته بإيقاعٍ منتظمٍ مثل هذا، رافعاً أشدّ آيات الرفض بوجه القتلة واللصوص، إنه خطاب عشّاق وشعراء وصلوا إلى المعنى قبل أي كلام آخر.
صفاء سالم إسكندر (من مواليد بغداد 1990): أب خائف وأبناء شجعان
الوعي والشجاعة، اللّذان ظهرا بشكل مبهر ومستفزّ للطبقة السياسيّة، حطّما قوانين القدسية في العراق وشكّلا أولى نتائج الثورة، وإن لم تكن شاملة، لكنّها قدّمت منفذاً حقيقيّاً لمواجهة النزعات والقوى الدينيّة المتطرّفة، التي تتحمّل جزءًا كبيراً ممّا وصلنا إليه في العراق. يعود فضل ذلك إلى الشباب الذي رأى العالم الآخر كيف يعيش، بينما بلد مثل بلدنا، أستطيع القول: نحن نعيش بثروات ، لكن من يحكمنا، لا يدرك المواطنة، ولم يعِ ذلك، على امتداد تاريخ العراق الحديث، كلّ من حكمنا، كان قادماً من خلفية دينيّة أو عشائريّة أو ميليشيويّة- حزبيّة، أو أنّ الطبقات السياسيّة الحاكمة تأتي بتوصيات من رجال الدين وأبناء المراجع، يعني، أننا بعد الـ2003، خضعنا لحكم العقل الواحد، العقل الذي يرى وصايته علينا.
الشباب لا يريدون أكثر من وطن، يا تُرى هل أصبح واقع هذه الكلمة صعباً؟ ضف على ذلك، أنّنا تخلّصنا من عقل الأب، المرهوب والخائف الذي يرى أصحاب القدسية هذه خطاً أحمر، جاء جيلنا، الذي سيشكّل مساحة الأمل المقبل للعراق.
أحمد ضياء: (من مواليد بابل 1990): الجيل المنتفض
يمارس الشاعر دوره في تفعيل الخطاب المفاهيمي إلى آخر أقلّ حدة، من شأنه أن يكون مع الشعب ضدّ السلطة، وبهذا يحاول الإسهام في "تذويت" الخطاب العام وتمرير آليات معرفته من أجل دعم الحراك الموجود في الساحة بشكل عام، الأمر الذي يهيكل خطّة المطالب ويوسّع دائرة التعاون، ونجد أيضاً الفاعلية في تكوين نصوص داعمة لهذا الحدث العظيم في العراق، إذ تتمرأى أمام الجميع المشاهد البطوليّة لأصحاب (التكتك) والطبابة وبطولات عددٍ كبيرٍ من الشابات والشبان، فالشاعر مشتبك مع هذه المشاهد الحياتيّة بوصفها نصوصاً بصريّة، مدافعاً عن الحريّة، صادحاً بصوته من أجل الحقّ واسترداد الوطن من مغتصبيه.
إنَّ تجاوز التابو الاجتماعي (الخطّ الأحمر وتاج الراس كما يسمونه شعبيّاً) وكسر أطر الخوف برفض هذه البيانات السلطويّة المهيمنة على الشعب، التي كان الحديث عنها محصوراً بفئة قليلة، أدت إلى شعور الجميع ببلوغ الفرصة الآن لضمان التعبير عن آرائهم بحريّة تنتمي إلى هذا الحدث الكبير، وهذا الجيل، ، يحذّر الحكومة من أيّ تسويف في المطالب، ممّا ولّد أزمة حقيقيّة بين الفرد المنتفض والآخر السلطوي، لضمان حقّ الوطن والمواطنة.
مبين خشاني (من مواليد واسط 1998)
أنا لا أقرأ هذه الهبّة الشبابيّة أو أنظر إليها من بعيد، إنّما أنا معهم في ساحات الاعتصامات من الكوت إلى ساحة التحرير في بغداد. هذه لحظة العراق الجديد يؤثّثها الجيل الجديد، نحن جيل متنوّع، هضمنا خراب الحروب السابقة، سواء الحروب العسكريّة أو الأهلية الطائفيّة وحتّى الاجتماعيّة. لذا، نضجنا بوعي تخطّى كلّ التنظيرات والتوقعات، فخور لأنّني أنتمي إلى هذا الجيل وهذه الثورة، سقط كثيرون من أصدقائنا شهداء من أجل هذه الثورة. لذا، نحن مستمرون حتّى نؤسّس عراقنا الجديد الذي يشبهنا.