"لا بد من عيد الميلاد! أنا عيد ميلادي مالوش معاد.. فين الورق والنسمة والمقص والقلم يا واد؟.. ولا بلاش، ده مفيش أمل.. أعياد كتير بيبتدوا وبيفرغوا.. وبيفضل العالم كده.. مكبوس، ودمه تقيل تقيل.. يا ربنا، يا اللي خلقت لنا الأيادي للهزار و للعمل.. إديني قوة ألف مليون إيد، عشان أزغزغه!".
في كل مناسبة يحضر وكأنه منا، يعرفنا بيقين بالغ، كما كان يعرف تماما أن مناسبات عيد الميلاد حزينة رغم مظاهر الفرحة، 89 يبدو رقما غير مبالغ فيه، فكثيرون يعيشون إلى هذ العمر وما بعده، فلو كان الله أمد في عمر صلاح جاهين، كان يمكن أن يكون بيننا الآن، لكن مهلا من قال إن صلاح جاهين غاب، إنه واحد من أكبر صانعي "الأرشيف العاطفي والوطني والاجتماعي للمصريين".
تراث مذهل يليق بشاب عمره ألف عام
كان الأمر سيكون أيسر بكثير لو كانت تلك السطور عن شاعر فذّ أو فيلسوف يقظ الضمير، أو مؤلف مبهج أو رسام عبقري، أو منتج صاحب علامات سينمائية ناجحة وباقية، لكن كيف يمكن الحديث عمن يجمع كل هذا، ونجح في كل هذا، لن تنفع الحِيل مع صاحب الرباعيات ونجم الحِيل!
الطفل العملاق، الذي كان يملأ الدنيا ضحكا ودهشة بأغانيه وبشاشته، وسخريته الفلسفية، غادر باكرا كان لتوه قد أكمل الخامسة والخمسين من عمره حينما فارق الحياة في 21 أبريل (نيسان) عام 1986، عاش 55 عاما فقط وترك إرثا يليق فعلا بشاب عمره ألف عام، متعدد المواهب ومتقنها أيضا. صلاح جاهين من مواليد 25 ديسمبر (كانون الأول) 1930 بحي شبرا القاهري، ترتبك أمامه كل خطط الكتابة، المفاجأة أن عائلته أيضا تشبه الجمهور، فلا يعرفون ماذا يقولون حينما يتعلق الأمر باسم صلاح جاهين، وبينهم ابنته الصغرى سامية جاهين، المطربة في فرقة "إسكندريلا" المصرية، وصاحبة مشروع تراثي لحكايات الأطفال. تفيض مشاعر الابنة التي حملت اللقب والروح ونفحة الموهبة من الأب، قائلة لـ"اندبندنت. عربية"، وقد اختصتنا بصور نادرة لأبيها، إن "كل لمحة مع أبي لا تنسى، لا يمكن أن أختار ذكرى محددة، ورغم أنه غادر الحياة وأنا في السادسة من عمري، لكنه ملأ ذاكرتي".
منزل صلاح جاهين... ممتلئ بضحكاته
سامية جاهين التي لا تزال تعيش في نفس المنزل الذي كان يعيش فيه والدها "10 شارع جامعة الدول العربية بحي المهندسين بمحافظة الجيزة المصرية"، تتابع "كان أبي طفلا، يلعب معي على الأرض، يدللني بحنان ليس كمثله حنان، كانت جلسته المفضلة معي على الأرض ليشاركني ألعابي ونرسم سويا، لأ أنسى أبدا تلك الجلسات، ولا صوت ضحكته وصوت الموسيقى في مكتبه".
تؤكد الفنانة التي ورثت ملامح والدتها الفنانة منى قطان وروح الأب الخلابة أن أباها لم يمارس أبدا أي تسلط عليها. بالعكس، حينما كانت تخطئ مثل كل الصغار كان الحزم يأتي من ناحية الأم، فيما الشاعر الكبير كان يدلل ويعانق ويعود طفلا كي يرسم الابتسامة من جديد على وجه أصغر أبنائه "لديه من زوجته الأولى السيدة سوسن محمد زكي ابنة وابن، هما أمينة جاهين، والشاعر بهاء جاهين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الابنة على العهد ولا تزال تحتفظ بمكتب صلاح جاهين على حاله، وتتابع "كل تفصيلة بمكتب أبي على وضعها، كنت أتابعه دوما يجلس وينجز أعماله، يرسم ويكتب، ولذلك حرصت على ترك غرفة المكتب كما تركها، ولكنني فقط أخرجت منها البيانو لأنني كنت بحاجة إليه في البروفات".
سامية جاهين أم لطفلة وطفل، تقول عن فكرة اهتمامها بالفن، وكذلك أخيها غير الشقيق الشاعر بهاء جاهين، وهل الأمر فعلا له علاقة بالوراثة والجينات "الأمر في رأيي ليس هكذا أبدا، ولكن الفن يكون مثل العدوى، فالطفل الذي يعمل والده بالطب ينشأ على تلك الأجواء فيتعلق بتفاصيل المجال، وبالتالي الفن، فمن ينشأ في بيئة كلها تحتفي بالفن وتشجّع عليه يكبر وهو يريد أن يتعمق أكثر ويكون لديه الشغف لهذا الأمر".
كيف لوّن صلاح جاهين أيام ومناسبات المصريين؟!
"يأسك وصبرك بين إيديك وإنت حر.. تيأس ما تيأس الحياة راح تمر.. أنا دقت من ده ومن ده وعجبي لقيت.. الصبر مر وبرضه اليأس مر"، بعض من كلماته التي كُتب لها البقاء، أستاذ الرباعيات الذي يحضر في كافة أيام مصر الكبرى، حيث تُستدعى أغنياته ورباعياته في أيام الثورة المصرية، كما يحضر بنفس البهاء في مناسبات البهجة والنفحات، مبدع أوبريت "الليلة الكبيرة"، أحد عروض العرائس الخالدة بمصر، ونجم الربيع بكلماته فائقة السعادة "الدنيا ربيع"، صديق الشتاء برباعيته الأثيرة عن هذا الفصل، وفي عيد الأم تصدح كلماته الرقيقة، فيما قائمة أفلامه ترافق أوقات لم الشمل، وأبرزها "خللي بالك من زوزو". صديق سعاد حسني وصندوق سعادتها وبئر أسرارها، وشريكها في صناعة المجد، الذي جرّب التمثيل وأحب كافة الفنون، نسيب الشاعر الكبير الراحل فؤاد حداد، حيث تزوجت ابنته الكبرى أمينة من نجل حداد، و هو شاعر متدفق الموهبة يلمس القلب دوما "أمين حداد".
صلاح جاهين والزيارة الأخيرة لقبر الرسول
أمين حداد قال في جزء من تدوينة له عن الراحل صلاح جاهين، ساردا ذكرى نادرة معه "سألت نفسي سؤالًا: من أنا لأتكلم عن صلاح جاهين. فكرت قليلًا ثم أجبت: أنا ابن صديقه وصديق ابنه وزوج ابنته، ثم أبو أحفاده. وأنا شاعر يكتب بالعامية المصرية تأثرت به وأتأثر به. وتشجيعه لشعري كان من الشهادات التي أعانتني على مواصلة الكتابة، وأنا رفيقه في آخر رحلة له قبل وفاته عندما ذهبنا سويا في يناير (كانون الثاني) سنة 1986 إلى الأراضي الحجازية، مرتدين ملابس الإحرام من جدة إلى مكة، وفي حرم الكعبة وبين الصفا والمروة ثم في المدينة المنورة أزور معه قبر الرسول، ونصلي سويا في الروضة الشريفة، وأنا واحد من المصريين من الخلق المخلوقين من طين ولدت مغمض العينين وقضيت الدقائق والشهور والسنين منذ ستينيات القرن الفائت أقرأ أشعاره ورباعياته وأطالع رسوماته وأسمع أغانيه، وتأتيني كلماته في الصباح الباكر لتوقظني من نومي ومن غفلتي. وتنير يومي. حتى ولو كانت كلمات من الحزن العظيم".
ويتابع ليحكي موقفا لا ينساه حينما كانا معا في السعودية "أشكرك على يوم زيارة المسجد النبوي، عندما كان الزحام شديداً على قبر الرسول، فقلت لك: لن نستطيع الوصول إليه، فقلت لي: خليك في ظهري. وفجأة وجدتنا أمام القبر نقرأ الفاتحة، وأنا مذهول من سهولة الوصول، ولما سألتك بعد ذلك: كيف وصلنا؟ قلت لي: قلت لنفسي لو كان الرسول عايزني حيخليني أوصل له".