في نظرة سريعة على شريط الأحداث التاريخية في لبنان منذ الاستقلال في العام 1943 حتى اليوم، يمكن الاستنتاج أن النظام السياسي في لبنان يصطدم بأزمة سياسية وبنيوية حادة كل 15 سنة تقريباً تنتج تسوية مرحلية وتوازناً قائماً على هيمنة إحدى الطوائف على الطوائف الأخرى، انطلاقاً من التوازنات الإقليمية والدولية المحيطة.
استقل لبنان عن الانتداب الفرنسي في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1943 انطلاقاً من "صيغة" الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح، لتتبلور هذه الصيغة في ما سمي بالميثاق الوطني الذي نظم أسس الحكم في لبنان، قبل أن يصطدم النظام اللبناني بثورة 1958 في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون، وانتهت بانتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية ورشيد كرامي رئيساً للحكومة تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب".
في العام 1975 اتخذت الأزمة اللبنانية بعداً طائفياً ومذهبياً حاداً اندلعت على إثره الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت حتى العام 1990 قبل أن تنتهي بـ"اتفاق الطائف" وإسقاط رئيس الحكومة العسكرية بقيادة العماد ميشال عون.
حقبة الوصاية السورية على لبنان، انتهت في ثورة 2005 تاركة وراءها انقساماً حاداً بين معسكري 14 و8 آذار، ليهيمن حزب الله تدريجاً على المشهد السياسي بدعم إقليمي واضح من إيران والنظام السوري بعد أن انقلب على طاولة الحوار الوطني عام 2006 وتسبب بحرب مدمرة مع إسرائيل ثم اقتحم في مايو (أيار) 2008 بيروت. فأُخذ لبنان إلى مؤتمر الدوحة الذي أدخل سلاح حزب الله في التسوية الداخلية، وكان شعار المرحلة "حكومات الوحدة الوطنية".
مع بداية العام 2020 وبعد مرور 15 سنة على خروج القوات السورية من لبنان وهيمنة شبه كاملة من محور الممانعة الموالي لإيران، يقف لبنان على أبواب مرحلة سياسية جديدة بدأت ملامحها بالانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ولا تزال مستمرة.
ينقسم المحللون بين من يعتبر أن الأزمات السياسية التي تعصف بلبنان بمعدل 15 عاماً تعود لأسباب بنيوية في تركيبة النظام السياسي غير القادر على امتصاص أي أزمة سياسية ومعالجتها ضمن الأطر المؤسساتية، وبين من يعتبر أن المشكلة هي ارتدادات للأزمات الخارجية المحيطة التي تستوردها البنية الضعيفة للتركيبة اللبنانية بعيداً من شكل النظام السياسي.
الفيدرالية
وفي هذا السياق يرى الأمين العام للمؤتمر الدائم للفيدرالية د. الفريد الرياشي أن النظام اللبناني منذ استقلال لبنان حتى اليوم لم يستطع تأطير أي أزمة سياسية ولم يصنع مواطنة حقيقية، لذلك لم نشهد أي استقرار وذلك حتى قبيل تأسيس دولة لبنان الكبير ولغاية يومنا هذا، مشدداً على ضرورة تغيير النظام الحالي لبناء دولة عصرية قادرة على مواجهة التناقضات الداخلية والصراعات الإقليمية.
ويشير إلى أن الفيدرالية نظام وجد لإدارة الدول التعددية، سواء أكانت ثقافية أم عرقية أو طوائفية، لافتاً إلى أن نحو 40 في المئة من سكان العالم يعيشون في دول فيدرالية. ويضيف "يتهم البعض النظام الفيدرالي بأنه تقسيمي، ولكنه عكس ذلك تماماً، فهو يوحّد السياسة الخارجية والدفاعية والمالية، بينما يعاني النظام المركزي الحالي الانقسام، إذ إن كل طائفة ترى أن وجود تحالفات مع دول خارجية يحميها من احتمال تسلط الطوائف الأخرى عليها".
وانتقد طرح اللامركزية الإدارية كمعالجة للنظام المركزي الحالي، معتبراً أن اللامركزية الإدارية لا تحل شيئاً كونها لا تؤمّن حلّاً سياسيّاً للمكونات المجتمعية الطوائفية، مضيفاً "يوجد أيضاً من ينادي بإنشاء مجلس شيوخ ولكن علينا أن ننتبه إلى أنّ مهمات مجالس الشيوخ تهدف إلى مناقشة المسائل الكبرى كتعديل الدستور أو آلية اتخاذ القرار على صعيد الدولة، إذ إن هذه المجالس تهمل الأمور الحساسة المتعلقة بخصوصية المكونات كحل كتاب التاريخ أو وضع أسس للتمثيل الصحيح لكل مكون".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن إمكانية تطبيق نظام فيدرالي في بلد صغير مثل لبنان، يشير الرياشي إلى نماذج لدول أصغر من لبنان، مثل ميكرونيزيا 740 كلم مربعاً، وجزر القمر 2000 كلم مربع، وسانت كيت ونيفيس التي تبلغ مساحتها 261 كلم مربّعاً، مؤكداً أنه "إذا أردنا الحفاظ على لبنان، وطناً واحداً موحداً وبعيداً من الشعارات الرنانة، علينا الولوج إلى هذا النظام كونه يؤمن العدالة والاستقرار ويؤسس لمرحلة جديدة تنقل لبنان إلى مصاف الدول المتقدمة والمتطورة".
لعبة الأمم
يعتقد الخبير في علم القانون والاجتماع الأكاديمي أنطوان مسرّة أن وضع لبنان يُشبه ما كانت تعيشه سويسرا في الماضي، فهي لم تستقرّ ولم يَستقم نظامها إلا عندما أصبح جوارها أقل عدائية وأكثر ديمقراطية. وهذا الوضع لم يتوافر بعد في الحالة اللبنانية، مشيراً إلى أنه كان من المفترض على اللبنانيين، بعد تجارب الحروب المتعددة الجنسية أن يتعظوا.
ويذكّر مسرة بأن وثيقة "إعلان بعبدا" التي أقرّت أيام الرئيس السابق ميشال سليمان تنص بشكل واضح على سياسة النأي بالنفس، وقد وقعها الأفرقاء كافة لشعورهم أو اقتناعهم بتحوّلهم إلى ضحية وأداة في لعبة أكبر منهم، مشدداً على أن لبنان كبير في تراثه وثقافته ودوره العربي، ولكنه صغير في "لعبة الأمم".
وينتقد مسرة مَن يرمون المشكلة على الميثاق الوطني والدستور، وعلى الصيغة واتفاق الطائف، ويتجاهلون مختلف أشكال الاحتلال بالمعنى المعاصر اليوم، بمعنى أنه يمكن أن يكون احتلالاً بالوصاية وفرض النفوذ وليس بالضرورة من خلال الوجود المباشر على الأرض.
ويقر مسرّة بأن النظام اللبناني صعب، "ولكن يجب أن لا ننسب التهمة إلى الطائفية، ولبنان على مستوى المجتمع توصّل إلى درجة عالية من الانسجام خلافاً للخطاب السياسي الذي يُميّز بين المسلمين والمسيحيين".