يُقام حاليًّا في قاعة الكونسييرجوري (conciergerie) في باريس معرض خاصّ بآخر ملكات فرنسا ماري أنطوانيت (1755-1793)، وبأيّامها القليلة (عشرة أسابيع) التي قضتها في زنزانتها في الـكونسييرجوري قبل أن يتمّ إعدامها في 16 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1793 عن عمر سبعة وثلاثين عامًا. وكانت الـكونسييرجي تُعتبر آنذاك آخر محطّات السجناء والمعتقلين السياسيّين قبل مثولهم أمام المحاكم الرسميّة، وفيها انتظرت ماري أنطوانيت محاكمتها ثمّ منها تمّ نقلها إلى مكان إعدامها. وتُعرض اليوم في هذا المكان ملابس الملكة، والرداء الذي ارتدته صباح يوم إعدامها، والزنزانة التي أقامت فيها، كما تُعرض لوحات ومجسّمات عنها وأفلام وثائقيّة عن حياتها إلى جانب جملة من أبرز محطّات حياتها ومراسلاتها وصور عن موجات الغضب التي واجهتها في حياتها وحتّى لحظة إعدامها.
وعدا عن كونها آخر ملكات فرنسا قبل اندلاع الثورة الفرنسيّة في 14 تمّوز/ يوليو 1789، تُعتبر ماري أنطوانيت من أبرز ملكات العالم وأكثرهنّ شهرة سواء بسبب سياستها المستبدّة المتسلّطة، أو بسبب عشقها للبذخ والترف والموضة، أو بسبب جملتها الشهيرة عندما نقلوا لها أنّ فقراء فرنسا يموتون جوعاً: "أطعموا الفقراء البريوش" (أو البسكويت في بعض الأخبار) وهي مقولة لم تثبت نسبتها إليها تاريخيّاً.
وماري أنطوانيت هي آخر الملكات اللواتي حكمن فرنسا واللواتي عُرفن بالبذخ والترف والإسراف بينما الشعب يراقبهنّ بحسرة وغضب وغليان. فجاءت الثورة الفرنسيّة لتقلب المعايير وتزيح طبقة النبلاء والأرستقراطيّين من دون رحمة أو شفقة بعد سنوات من الجوع والظلم والحرمان. ونقلاً عن المؤرّخين، يظهر أنّه تمّ إعدام حوالى أربعين ألف شخص في فترة الرعب تلك التي قامت بعيد الثورة الفرنسيّة، وبينما قد يصدم هذا الرقم البعض إلاّ أنّ الثورات لا بدّ أن تقوم على الدماء فمنها تستقي قوّتها وجبروتها لتحلّ العدالة والحرّيّة والمساواة، أفلم يقل أحمد شوقي: "للحرّيّة الحمراء باب/ بكلّ يدٍ مضرّجة يدقّ"؟
السقوط واندلاع الثورة
وماري أنطوانيت هي في الأصل ماريّا أنطونيا جوزيفا جوهانا من النمسا. ولدت العام 1755 في النمسا وزُوِّجت إلى وليّ العهد الفرنسيّ وهي بعد في الرابعة عشرة من عمرها، في محاولة لإنهاء الحرب التي كانت قائمة آنذاك بين فرنسا والنمسا، وكان هذا الزواج كغيره من الزيجات الملكيّة إجراءً رائجاً ومتعارفاً عليه في عصر يتمّ فيه تزويج الأبناء الملكيّين فيما بينهم لعقد معاهدات سلام بين الدول والإمبراطوريّات. وبوفاة الملك لويس الخامس عشر العام 1774، جلس على العرش الفرنسيّ لويس السادس عشر زوج ماري أنطوانيت، لتصبح هي بذلك ملكة فرنسا وهي بعد في التاسعة عشرة من عمرها.
وبعد سنوات قليلة على العرش، بدأت تواجه الملك لويس السادس عشر مشاكل جمّة في الحكم، من أزمات اقتصاديّة واحتجاجات شعبيّة ومواجهات سياسيّة وزوال ثقة الناس به. وكان الملك، باعتراف المؤرّخين، ملكاً ضعيفاً غير مؤهّل للحكم، يؤثر القراءة والصيد والعزلة على التوغّل في دهاليز الحكم والقيام بشؤون بلاطه وشعبه بحنكة وتماسك، فراحت تدخّلات ماري أنطوانيت في الحكم تتزايد وتتضاعف بخاصّة مع تزايد موجات الغضب الشعبيّ. ومع تفاقم الأمور وازدياد الاحتقان في النفوس وتردّي الأوضاع الاقتصاديّة ساءت الأحوال وتأجّجت الأحداث وأقام الشعب الفرنسيّ حصاراً على العائلة الملكيّة مانعاً إيّاها من مغادرة باريس.
وقد أخذ الشعب الفرنسيّ على ملكته أكثر من مأخذ وعيّرها على إهمالها وغرورها فكانت هي بذلك السبب المباشر في الثورة التي حصلت فيما بعد. وقد اتُّهمت ماري أنطوانيت بالخيانة وبالتواصل مع العدو (وهو النمسا مسقط رأسها)، كما طُعنت بأخلاقها ومسارها وتربيتها لأولادها. وقد تكون مسألة عقدها الألماسيّ الذي بلغت قيمته آنذاك 2،000،000 ليرة فرنسيّة أي ما يزيد على 14 مليون دولار في يومنا هذا، مسألة أساسيّة في انقلاب الشعب ضدّها على الرغم من براءتها من المسألة برمّتها.
ومع ازدياد الاضطرابات يوماً بعد يوم اندلعت الثورة الفرنسيّة صيف العام 1789، ثورة تُعتبر محرّكاً تاريخيًّا بارزاً وأحد أكثر الأحداث التاريخيّة تأثيراً في التطوّر السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ البشريّ. فقد تمثّلت شعوب كثيرة بمبادئ هذه الثورة وبمسارها ولعقود طويلة كما ما زالت هذه الثورة حتّى يومنا هذا مضرب مثل بين الشعوب التي تناضل لنيل حرّيتها وحقوقها وعدالتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
قامت الثورة إذاً ضدّ العائلة الملكيّة وبخاصّة ضدّ الملكة ماري أنطوانيت، وهو أمر تؤكّده الأخبار التاريخيّة، حتّى إنّ الرئيس الأميركيّ الثالث وأحد الآباء المؤسّسين للولايات المتّحدة والكاتب الرئيسيّ لإعلان الاستقلال طوماس جيفرسون يقول: "لديّ اعتقاد عميق بأنّه لولا الملكة ماري أنطوانيت لما قامت ثورة فرنسيّة يوما"، بإشارة منه إلى دور هذه الملكة في قيام الشعب على الظلم والفقر واستبداد طبقة النبلاء والإقطاعيّين، فهي لم تكن محبوبة وكان الشعب ينظر إلى بذخها ونمط حياتها نظرة غضب وعدم رضى. فجاءت الثورة وأطاحت الحكم وتمّ إعدام الملك لويس السادس عشر العام 1793 ومن بعده بتسعة أشهر تمّ إعدام آخر ملكات فرنسا ماري أنطوانيت في 16 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1793.
الموضة والأناقة
يُظهر المعرض المُقام حاليًّا في الـكونسييرجوري آخر أيّام الملكة التي ظلّت على شموخها وأنفتها وجبروتها حتّى في أكثر أيّامها قتامةً وبؤساً. فيُقال إنّها قصّت شعرها بنفسها عند صدور الحكم بحقّها، كما أنّها رفضت التحدّث إلى الكاهن الذي تمّ إرساله ليرافقها إلى مكان إعدامها في ساحة الثورة وهي ساحة كونكورد اليوم.
بالإضافة إلى ذلك تُعرض فساتين ماري أنطوانيت وأزياؤها ومجوهراتها وتسريحاتها هي التي كانت معروفة بحبّها للبذخ والأناقة والإسراف. ومن الجدير بالذكر أنّ الإرث الثقافيّ العالميّ لم ينسَ ماري أنطوانيت بل نراها قد ظهرت في مؤلّفات وروايات لستيفان زفايغ مثلاً وغوته ودوما وغيرهم، كما أُخرِجت أفلام سينما حول حياتها قد يكون أبرزها فيلم صدر العام 1938 تؤدّي فيه نورما شيرر دور ماري أنطوانيت، وفيلم صوفيا كوبولا الذي ظهر العام 2006 والذي تؤدّي فيه كيرستن دنست دورها.
تمّ إعدام الملكة ماري أنطوانيت الملكة الجبّارة التي كانت مُلقّبة بسيّدة العجز الاقتصاديّ (Madame déficit) بعد مثولها أمام المحكمة لتعاونها مع العدوّ واستبدادها وسوء توظيفها للسلطات الممنوحة لها وعدم قدرتها على القيام بالإصلاحات التي كان يحتاج إليها الشعب الفرنسيّ آنذاك.