تمر هذه الأيام ذكرى 16 عاماً على اندلاع الحرب في إقليم دارفور الواقع غرب السودان... الحال بعد هذه السنين تبدل كثيراً هناك، إلا أن الحاجة إلى جهود إضافية لترسيخ الأمن والاستقرار لا تزال ماسة، إضافة إلى استكمال عملية السلام. وتعكس عشرات مخيمات النازحين المنتشرة في ولايات دارفور الخمس وجهاً قبيحاً للأزمة، على الرغم من أنها منحت حياةً جديدة لحوالي مليوني مواطن.
طي صفحة الحرب
تكاد صفحة الحرب الدامية في دارفور أن تُطوى بعد سنوات سوداء خلّفت أرامل ويتامى ونازحين فارقوا ديارهم تاركين ذكرياتهم الجميلة فيها، في حين نشأت أجيال جديدة فتحت عيونها في مخيمات النزوح داخل الإقليم او مراكز اللجوء في دول مجاورة. وركب شباب المجهول وقذفت بهم أقدارهم في مختلف بقاع العالم.
ويُعتبر توقف آلة الحرب مرحلةً مهمة لحقن الدماء، وتراجع المعاناة، لكنّ مراقبين اعتبروا أن طريق تعافي دارفور لا يزال طويلاً. وتتطلب المرحلة الجديدة من الحكومة المحلية والنخب في دارفور ومجتمعاتها، الانتباه إلى معالجة آثار خطرة رتبتها الحرب، إضافة إلى الإعداد لانطلاقة ترسخ الأمن والاستقرار وتعيد الطمأنينة للمواطن الذي كوته سنوات رعب كالحة.
وتفيد دراسات بأن تكلفة الحرب في دارفور أتت عالية على المستويين الاقتصادي والإنساني، إذ أفقدت الدولة السودانية 24.07 مليار دولار، شملت إلى جانب المجهود الحربي، خسائر في الإنتاج ومدخرات النازحين، والقتلى والإضرار في البنى التحتية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نازحون ولاجئون
وأسهمت الحرب في دارفور أيضاً بشكل كبير في تفكيك بنية المجتمع وتمزيق أواصر التعايش والترابط بين مكوناته. وأدت ظاهرة النزوح الداخلي واللجوء إلى دول جوار إلى ظهور سلوكيات سلبية شوّهت القيم والموروثات والثقافة، وأضرت التعليم، وهذا ما سينعكس لاحقاً في التحاق الأطفال بحقل العمل العام أو المساهمة في الإعمار والتنمية وصناعة الحياة.
ولجأ أكثر من 300 ألف مواطن من دارفور إلى تشاد المجاورة، حيث يعيشون في 12 مخيماً، ولِد كثيرون فيها وتربوا ودرسوا بفضل مساعدات المنظمات الأجنبية. وعلى الرغم من هدوء الاوضاع في الإقليم فإن عدد العائدين لا يزال محدوداً.
أما الذين عادوا من تشاد إلى مناطقهم الأصلية، فقد واجهوا ظروفاً قاسية لأنهم فقدوا المأوى ووسائل كسب العيش، فبعدما كانوا يتلقون مساعدات من المنظمات الدولية، باتوا يحتاجون إلى العون إثر عودتهم كي يتمكنوا من استئناف حياتهم بشكل طبيعي، في وقت يعاني أبناؤهم أيضاً في الدراسة.
وينتشر في ولايات دارفور الخمس 115 مخيماً للنازحين، وقد صارت موطناً جديداً لشباب تفتحت عيونهم على الدنيا بعيداً من قراهم وبلداتهم، كما تغيرت ثقافتهم وتقاليدهم وطرائق عيشهم وتفكيرهم.
حياة جديدة في المخيمات
وخلال زيارتنا إلى بعض مخيمات النازحين في فترات سابقة، لاحظنا أن الحياة تطورت نسبياً فيها، على الرغم من أنها لم تزل غارقة في البؤس. وكان المتضررون من الحرب في "مخيم النيم" قرب الضعين عاصمة ولاية شرق دارفور ومخيم "ابوشوك" قرب الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، يقطنون في مساكن متواضعة مشيّدة من أكياس "الخيش" والحطب والخيام والمشمعات، وكانوا يعتمدون في غذائهم على ما تجود به منظمات الأمم المتحدة.
وتحدث نازح أربعيني يُدعى اسحق آدم إلى "اندبندنت عربية" فقال إن "الحياة في المخيمات جحيم لا يُطاق"، وإنهم يجدون صعوبة بالغة في الحصول على أبسط متطلبات الحياة. وأضاف أن الفضل بوجود عدد كبير من خريجي الجامعات في المخيمات يعود إلى منظمات اهتمت في السنوات الاولى للحرب بانشاء مدارس كي لا يضيع مستقبل الأطفال. إلا أن نازحاً آخر يُدعى زكريا، وعلى الرغم من اعتزازه بتعليم أبنائه، يتحسر على ضياع مستقبل شباب كثر لم يتلقوا تعليماً مناسباً.
ويشكّل الشباب أكثر من 63 في المئة من إجمالي النازحين، وحوالي 53 في المئة من اللاجئين في دول مجاورة. ويبدي زعيم أحد مخيمات النازحين، ويُدعى ابراهيم صالح، قلقه من شيوع تعاطي الخمور والمخدرات وسط الشباب، إضافة إلى رفض مَن نشأ في المخيمات العودة إلى ديار الأجداد بعدما ألفوا حياة المدن وارتفاع درجة الوعي لديهم. ولم يعد يرغب هؤلاء الشبان في العمل في الزراعة والرعي، بل يتابعون منافسات كرة القدم الأوروبية في أندية المشاهدة المنتشرة في المخيمات.
وبعد استمرار المخيمات 16 سنة وفشل كل مساعي تفكيكها، باتت مفوضية النازحين تقترح تحويلها إلى مدن جديدة، وإعادة الراغبين إلى ديارهم الاصلية، أو دمج النازحين في المجتمعات المحلية في ولايات دارفور الخمس.
خيارات السلام
اندلعت الحرب في دارفور في أواخر فبراير (شباط) 2003، عندما سيطر متمردون على مدينة قولو، حاضرة محافظة روكرو في وسط الإقليم، على سفوح تلال جبل مرّة، حيث رُفع علم "حركة تحرير السودان" بقيادة عبدالله ابكر وعبدالواحد محمد نور.
ووقّعت الخرطوم خلال السنوات الماضية أكثر من 10 اتفاقات مع الفصائل المسلحة في دافور، بدءاً من "أبشي" التشادية في العام 2004 ثم أبوجا (نيجيريا) في 2006، وصولاً إلى الدوحة في 2011 ثم اتفاقات مع مجموعات في ليبيا وأديس أبابا والخرطوم، إلا أن حركتَيْ "العدل والمساواة" بزعامة جبريل ابراهيم و"تحرير السودان" برئاسة مني اركو مناوي لا تزالان تجريان محادثات مع الحكومة السودانية واقتربتا من توقيع اتفاق سلام، في حين ترفض "حركة تحرير السودان" - فصيل عبد الواحد نور، التفاوض مع الخرطوم.
توقفت الحرب عملياً، إذ لا مواجهات بين القوات الحكومية والمتمردين، إلا مناوشات محدودة في أعلى جبل مرة، لكن الطريق إلى السلام المستدام وتجاوز آثار الدماء وإصلاح ما خربته أيدي العابثين بالسلاح لا يزال شاقاً وطويلاً. ويرى مراقبون أن المطلوب هو استكمال العملية السياسية بالاتفاق مع المتمردين لنزع أي مبرر لحمل السلاح، ونشر المحاكم والشرطة لفرض الأمن وتحقيق العدالة.
مخاطر وتحديات
من جهة أخرى، يرى خبراء في أزمة دارفور أن توقف الرصاص يجب أن يتبعه خطاب سياسي جديد ونشر لثقافة السلام ومعالجة الشروخ الاجتماعية والقبلية التي برزت خلال مرحلة الحرب، إذ لا بديل من التعايش السلمي وغسل الأحزان والضغائن المترسبة في نفوس قطاع كبير من المواطنين، عبر الإنصاف والعدالة وتعويض الأضرار وإعمال الموروثات المحلية الناجعة.
ويذكر المحلل السياسي خالد عبد الله أن "حرب العصابات دوماً تشهد حالة مد وجزر، وقابلة للاستمرار إذا وجدت مَن يقف وراءها ويوقد أوارها ولا يمكن القضاء عليها بصورة كاملة إلا عبر تسوية سياسية".
وعلى الرغم مما يشهده إقليم دارفور من هدوء واستقرار، فإن الوضع المضطرب في ليبيا ونشاط جماعة "بوكو حرام" النيجيرية المتطرفة قربه، يفرضان تحدياً حقيقياً، وهذا ما يحتم تبنّي خطوات جادة وحكيمة لتجنيب المنطقة أي مخاطر محتملة.
وتراجعت أزمة دارفور على الأجندة الاقليمية والدولية وانحسر التمرد ولاح الاستقرار، ولم تعد الأوضاع في المنطقة كما كانت، فليبيا التي كانت تغذّي المسلحين بالمال والسلاح مشغولة بنفسها والعلاقات مع تشاد، موئل قادة التمرد في أوقات سابقة، تعمقت، وهذا ما يجعل طي ملف دارفور قريباً إذا توفرت الإرادة والتنازلات المتبادلة.