عندما اندلعت أعمال العنف الطائفي في العراق عام 2006، إثر تفجير مزارات دينية مهمة في مدينة سامراء شمال العاصمة بغداد، كان رد الفعل الشيعي المسلح فوضوياً، فلم يكن حينذاك قد ظهر على الساحة سوى مجموعة "جيش المهدي"، التي يتزعمها مقتدى الصدر، وهو شاب عشريني في وقتها، تبين أن جسامة الأحداث تفوق قدراته.
خيار النخبة الشيعية
كانت النخبة السياسية الشيعية في بغداد حينذاك تحاول، وبتشجيع إيراني، الإجابة عن سؤال يتعلق "بمدى الحاجة إلى قوة عقائدية تساعد المذهب الإثني عشري في العراق على الصمود وسط تطرف سني ممثل بتنظيم القاعدة والجيش الإسلامي في العراق وكتائب ثورة العشرين، وغيرها من التنظيمات السنية الراديكالية"، التي كانت تستهدف الوجود الشيعي بوصفها "شريكاً سياسياً للولايات المتحدة المحتلة، التي أطاحت بنظام صدام حسين قبل أعوام".
وكشفت أحداث العنف الطائفي التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق، أن "جيش المهدي" هو أبعد ما يكون عن النهوض بمهمة حماية وجود الشيعة في العراق والدفاع عن مصالحهم، بسبب افتقاره لهيكل تنظيمي واضح، واعتماده كلياً على كاريزما الصدر وإرثه العائلي العريق، واستحالة إخضاعه بشكل كلي، لذلك غذّت إيران بشكل مبشر عمليات انشقاق واسعة داخل هذه المجموعة، أنتجت لاحقاً حركة "عصائب أهل الحق" بزعامة قيس الخزعلي و"حركة النجباء" بزعامة أكرم الكعبي، وغيرها من "الميليشيات المنشقة".
القوة الواعية
لكن هذه المجموعات، كانت أقرب إلى العصابات منها إلى الميليشيات المنظمة، وذلك بسبب طبيعة نشأتها وظروف تشكيلها واعتمادها دوماً على قيادة كاريزمية تدفعها إلى تخطي الحدود، لذلك طرحت النخبة الشيعية في بغداد خيار تأسيس "قوة شيعية واعية" في العراق، على غرار "حزب الله" في لبنان، بدلاً من الاعتماد على ميليشيات مندفعة بحماسة طائفية صوب أهداف لا تتسق ومشروع "الجمهورية الإسلامية" في إيران.
لم يكن هذا الخيار يعني في أي حال من الأحوال الاستغناء عن أي من الأذرع الإيرانية في العراق، لذلك سارت عملية تأسيس القوة الجديدة جنباً إلى جنب مع مشروع لتعزيز "نفوذ الميليشيات المنشقة عن الصدر".
في عام 2007، كان كل شيء جاهزاً لبدء استنساخ "حزب الله" اللبناني في العراق، فأوكلت المهمة إلى جمال جعفر آل إبراهيم المعروف بـ "أبي مهدي المهندس"
مفوض الدعوة
وفي عام 2007، كان كل شيء جاهزاً لبدء استنساخ "حزب الله" اللبناني في العراق، إذ أوكلت هذه المهمة إلى جمال جعفر آل إبراهيم، المعروف بـ "أبي مهدي المهندس"، وهو مفوض "حزب الدعوة الإسلامية" الذي كلفته إيران بتنفيذ هجمات داخل الخليج خلال ثمانينات القرن الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبين 1983 و1985، ذاعت شهرة المهندس في المنطقة، لأن اسمه قفز إلى لائحة أشد المطلوبين الدوليين، لضلوعه في هجمات ضد منشآت دبلوماسية في الكويت، وتخطيطه لمحاولة اغتيال أمير البلاد آنذاك.
وكانت خيارات المهندس واسعة، لأن الساحة العراقية كانت تعج عام 2007 بالمقاتلين المدربين على أعلى طراز، نظراً لتشابك ظروف العنف بين الاحتكاك المستمر مع الجيش الأميركي أو الاقتتال الطائفي بين المجموعات السنية والشيعية.
قيادة مجهولة
ومع أن المهندس اختار أكفأ المقاتلين للانخراط في النسخة العراقية من "حزب الله" اللبناني، إلا أنه كان حذراً في تسمية هيكلية قيادية لهذا الكيان القتالي، خشية تعرضه للانهيار في حال استهدافها. لذلك، بقيت قيادة "حزب الله العراقي"، مجهولة. ولتمييزه عن أصله في لبنان، أضيف مصطلح كتائب في مقدمة الإسم.
واستعان المهندس بمدربين من "حزب الله" اللبناني لتنظيم مقاتلي الكتائب، لكن العون الأكبر جاء من الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في "الحرس الثوري الإيراني".
ولا يخفي المهندس فخره بالعمل تحت يد سليماني، لكن الغريب أن سليماني يقول إنه يتشرف بكونه جندياً تحت إمرة المهندس.
تماهي المهندس وسليماني
حالة التماهي بين هذين الرجلين كانت واضحة بشدة في مسألة قيادة كتائب "حزب الله" العراق، إذ تتنقل القيادة المباشرة بينهما، وفقاً لمصادر مطلعة، بحسب الحاجة والظروف، لكن الأهم هو أن هذه القوة باتت مرتبطة بـ"الحرس الثوري الإيراني" على المستويات كافة، بدءاً من التدريب والتسليح والتجنيد وانتهاء باختيار خريطة الأهداف.
وقدمت كتائب "حزب الله" خدمات جليلة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد منذ عام 2011، إذ شاركت في القتال إلى جانب جيشه تحت قيادة "حزب الله" اللبناني، وأسندت إليه مهاماً كبرى من قبيل تأمين مطار دمشق.
وعندما تأسس "الحشد الشعبي" في العراق حجزت كتائب "حزب الله" موقعاً داخله، وعندما تولى أبو مهدي المهندس منصب نائب رئيس هيئة الحشد رسمياً، قفزت الكتائب إلى "المقدمة في قائمة الميليشيات العراقية الأكثر قوة وتنظيماً".
استعان المهندس بمدربين من "حزب الله" اللبناني لتنظيم مقاتلي الكتائب، لكن العون الأكبر جاء من الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في "الحرس الثوري الإيراني"
ضد الولايات المتحدة
وادخرت كتائب "حزب الله" معظم أنشطتها في العراق لتوجهها إلى الوجود الأميركي في هذا البلد. ونظراً للموثوقية العالية التي يتمتع بها مقاتلوها لدى "الحرس الثوري الإيراني" فقد حصلوا على الأسلحة الأحدث والصواريخ الأكثر دقة.
وخلال عام 2018، نُسبت إلى الكتائب ثلاث هجمات طالت مبنى السفارة الأميركية في بغداد بصواريخ كاتيوشا، كان من الواضح أنها أرسلت لأغراض إعلامية، لأن جميعها سقطت في مواقع خالية.
وفي أغسطس (آب) وسبتمبر (أيلول)، تعرضت مخازن أسلحة تابعة للحشد إلى غارات اتُهمت إسرائيل بتنفيذها، وما كان من المهندس إلا أن أعلن عن تفاصيل مؤامرة دولية شاركت فيها تل أبيب وواشنطن، وقال حينها إن "العاصمتين تواطأتا لإدخال طائرات مسيرة إلى العراق عبر أذربيجان، استُخدمت في ضرب مقرات الحشد لاحقاً".
وبعد أسابيع، شنت كتائب "حزب الله" سلسلة هجمات على السفارة الأميركية في بغداد ومعسكرات تشغلها قوات أميركية قرب مدينة الموصل وفي محافظة صلاح الدين، تسببت في جرح جنود عراقيين.
قمع الاحتجاجات
وفي مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تدخلت كتائب "حزب الله" للمرة الأولى في الشأن السياسي الداخلي، عندما تحولت إلى رأس الحربة في القوات التي قمعت حركة الاحتجاج الأوسع التي تشهدها البلاد.
واتُهمت الكتائب بنشر قناصين فوق أسطح المباني العالية في ساحة التحرير يوم الثالث من أكتوبر، وفتح النار على المتظاهرين الذين هتفوا ضد الهيمنة الإيرانية على القرار السياسي في بلادهم، ما تسبب في مقتل وجرح المئات.
تنقلت الاتهامات لتلك الكتائب بين المحافظات العراقية المحتجة، وظهر اسمها إلى جانب كل عملية قمع واسعة، ما وضعها في واجهة الأحداث، لاسيما مع تواتر الأنباء عن أن أبي مهدي المهندس وقاسم سليماني كانا على رأس غرفة عمليات التعامل مع الاحتجاجات.
تقنيات عسكرية متطورة
في الثالث من ديسمبر (كانون الأول) 2019، بدا أن كتائب "حزب الله" تريد أن تخبر الولايات المتحدة أمراً، إذ أرسلت دفعة صواريخ على موقع صغير جداً قرب مطار بغداد الدولي يضم جنوداً أجانب، متسببة بجرح عدد منهم.
هذا الهجوم مثّل دليلاً جديداً على امتلاك الكتائب تقنيات عسكرية متطورة، لأن الصواريخ التي استُخدمت في قصف المنشأة العسكرية قرب مطار بغداد كانت مزوّدة بأجهزة استدلال.
هجوم للتنفيس
وعندما ضاق الخناق على القوى السياسية الموالية لإيران في بغداد خلال مفاوضات اختيار رئيس وزراء جديد، خلفاً للمستقيل عادل عبد المهدي، وجه "حزب الله" ضربة لمعسكر في كركوك يوم الـ27 من ديسمبر، متسبباً بمقتل مواطن أميركي.
ووُصفت هذه العملية بأنها "تنفيس" عن احتقان سياسي يهدد المصالح الإيرانية في بغداد.
وبدا أن الخطة نجحت، إذ هاجم الأميركيون بعد يومين خمسة مواقع تابعة لكتائب "حزب الله" في العراق وسوريا، ما أدى إلى مقتل وجرح العشرات.
وحوّل الهجوم الأميركي "حزب الله" إلى ضحية بعدما كان جلاداً يحمّله قطاع واسع من العراقيين مسؤولية جعل العراق ساحة صراع بين الولايات المتحدة وإيران، وألقى بظلاله على مفاوضات اختيار رئيس الوزراء الجديد.
بهذا التطور، تكون كتائب "حزب الله" هي العدو الأول للولايات المتحدة في لائحة الميليشيات العراقية الموالية لإيران، وربما تستمر مناوشاتها مع الجيش الأميركي، ما دامت تحظى بدعم "الحرس الثوري الإيراني".