عند الساعة العاشرة مساءً من يوم الخميس 12 ديسمبر (كانون الأول)، شعر ملايين البريطانيين بصدورهم تضيق. فيما أسدلت استطلاعات الرأي الستار على جيرمي كوربين وحزب العمّال ليخرج حزب المحافظين القوي والنافذ إلى الضوء، انقطعت أنفاس كثير من الناس، بدءاً بالجالية الإسلامية في بريطانيا والمهاجرين غير النظاميين ووصولاً إلى المعتمدين على المساعدة المالية الحكومية.
يا للغرابة إذن أن نقرأ عن ردّة فعل اليهود البريطانيين على الانتخابات في مقال ظهر في صحيفة "جويش كرونيكل" بعنوان (الآن نتنفس الصعداء)، وكانت ردّة الفعل هذه من جالية التقطت أنفاسها بانتظار خسارة كوربين لمدة طويلةً، لدرجة أنها أصبحت تعاني الاختناق، مُتوقّعة تماماً.
فقد كرّس الإعلام اليهودي كما زعماء الجالية جهودهم طوال سنوات وبوتيرة تزايدت مع اقتراب موعد الانتخابات من أجل إقناع جاليتهم ومواطنيهم بإبقاء كوربين خارج رئاسة الوزراء، ونجحت مساعيهم. ما المانع من الاحتفال إذن؟
مع الأسف، لم تدم الاحتفالات طويلاً. في الليلة الأخيرة من احتفال الحانوكا أو عيد الأنوار، اكتشف المصلّون لدى خروجهم من كنيسة ساوث هامبستيد بعد قدّاس يوم الأحد أنّ الشعارات المعادية السامية تملأ جدران المبنى.
وحلّ الذهول فوراً محلّ شعور الارتياح: فبعدما "سحقنا (المعادين السامية) في صناديق الاقتراع"، كيف ازدادوا جسارةً في الشارع؟
وما أوضحه الحادث هو أنّ تصوير جيرمي كوربين على أنّه العدو الأول والأكبر جعل العديد من اليهود البريطانيين يعتقدون أنّ نهاية كوربين هي نهاية معاداة السامية في المملكة المتحدة (أو أقلّه أسوأ مظاهرها).
وكان مجلس النواب اليهود على يقين أنّه فيما "سُمح بازدهار العنصرية ضد اليهود" في ظل زعامة كوربين، سوف يضع هذا "الإنجاز التاريخي لبوريس جونسون" بريطانيا على المسار الصحيح كي تصبح "منارةً للاندماج والاحترام لكلّ قاطنيها". ومن وجهة النظر هذه، لا تعتبر أحداث الأيام الأخيرة خطوةً واعدةً بهذا الاتجاه.
عبر تركيزهم على شعور معاداة السامية داخل حزب العمال بشكل خاص، كفّ الزعماء اليهود البريطانيون أعين رعيّتهم عن المسببات الأكبر لمعاداة السامية حول العالم، التي ما انفكّت تنمو بشكل متواصل قبل مجيء كوربين، وسوف تستمرّ طويلاً بعد رحيله.
قبل ساعات فقط من وقوع الهجوم في شمالي لندن، تعرّض خمسة أشخاص للطعن داخل منزل حاخام في مونسي، نيويورك. ولحظ أحد المؤرخين نمطاً متكرراً من الأحداث. وعلّق سايمون شاما بقوله "إذا نظرنا إلى هذا الحدث مع أحداث الطعن في نيويورك نجد أنّ وحشاً رهيباً بالفعل يخرج من القذارة".
والأجدر باليهود البريطانيين أن يفكّروا في ماهية أو هُوية هذا الوحش. من أوربان إلى مورافيسكي، ومن ترمب إلى بولسونارو، أصبح بوريس جونسون أحدث زعيم قوي يكتسح السلطة بعد استخدامه ورقة كبش الفداء العنصري التي هيّأت الأزمة المالية ظروف ظهورها، ويُعتبر جونسون، مثل هؤلاء الرجال، وجهاً مقبولاً للعنصرية القومية البيضاء.
منذ يومين، زعم حزب "بريطانيا أولاً" اليميني أنّ 5 آلاف من أعضائه انضمّوا إلى المحافظين، وأرسلت المعلّقة اليمينية كايتي هوبكينز (تغريدة) إلى نظريتها المسلمة سيّدة وارسي تقول فيها "بات حزبنا الآن. عادت القومية. البريطانيون أولاً".
ومع أنّه من المبكر تحديد هُويّة المسؤولين عن طلاء الجدران بالغرافيتي، أشار البعض إلى أنّ النازيّين الجدد يعلّقون شعاراتهم في المنطقة منذ 18 شهراً. إنّ الوحش الخارج من القذارة ليس كوربين بل التعصّب للقومية البيضاء.
لكن، لا يبدو أنّ هذا ما يصدّقه اليهود. العام الماضي أجرت الوكالة الأوروبية للحقوق الأساسية أكبر استطلاع عالمي لرأي اليهود على الإطلاق، شمل 16.500 يهودي في 12 دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي، وسألتهم فيه عن تجاربهم مع معاداة السامية ونظرتهم إليها، وكانت النتيجة مدوّية: فقد تبيّن أنّهم يرون معاداة السامية مشكلة أكبر في اليسار مقارنة باليمين.
وبيَّن المشاركون في الاستطلاع الذين اختبروا شخصياً حادثة معاداة الساميّة خلال السنوات الخمس التي سبقت الاستطلاع، قال 21 في المئة إنّ مرتكب الحادثة يساريّ، مقابل 13 في المئة قالوا إنه يميني، واعتبر 30 في المئة أنّ ما ينذر بمعاداة السامية هو أن "يحمل المرء رأياً إسلامياً متطرفاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من ضرورة اعتبار نظرة اليهود إلى معاداة السامية أمراً جدياً، فالحقيقة المزعجة هي أنّ هذه النظرة تتعارض مع الواقع، فلطالما بدر السلوك والأفعال المعادية السامية عن اليمين أكثر بكثير من اليسار.
وخلّص تقرير نشرته منظمة صندوق أمن المجتمع في العام 2017 أنّه فيما يؤيّد المتطرفون اليساريون التصريحات المعادية السامية، شأنهم شأن باقي المجتمع، يرجّح أن يؤيد اليمينيون المتطرفون هذه التصريحات أكثر بمرتين إلى أربع مرّات، لكن المنظمة قللت من شأن نتائج بحثها، فقالت "مع أنّ معاداة السامية أكثر انتشاراً من جهة اليمين المتطرف مقارنة باليسار، ما زالت حصّة اليمين المتطرّف من المشهد السياسي البريطاني ضئيلة بشكل عام، وكذلك الأمر في أوساط اليمين السياسي".
لا داعي أن نوضح أنّ هذا الرأي لم يدم طويلاً. ويكتب باتريك كينغزلي في صحيفة (نيويورك تايمز) أنّه على الرغم من مخاوف استخدام مناهضة الصهيونية غطاءً لمعاداة الساميّة، "تظهر المعلومات أنّ الجهة المسؤولة عن معاداة السامية المعاصرة ما زالت اليمين الأبيض المتطرف".
كيف استجاب اليهود البريطانيون إذن لإصرار جهات سيئة النيّة مثل محرّري بعض الصحف اليهودية، أنّ التهديد الأساسي هو من اليسار؟ في إجابة شاب عشريني من اليهود الألمان على استطلاع وكالة الحقوق الأساسية إشارة إلى السّبب، إذ قال إنّ "معاداة السامية منتشرة بشكل أساسي اليوم في الأوساط المسلمة واليسارية للأسف. لكن بالطبع، اليمين يكنّ الكراهية لليهود، وهذا ليس موضع شكّ أبداً".
ربّما يساعدنا هذا التعليق في أن نفهم كيف أصبح المجتمع اليهودي يرى معاداة السامية من اليسار أكبر "خطر وجودي" يهدّده على الرغم من تزايد الإثباتات على العكس. فما يشير إليه تعليقه ضمنياً هو أنّ "معاداة الساميّة القديمة"، كراهية اليهود التي يبثّها اليمين بقوة وفخر، متواصلة لدرجة أنها أصبحت نوعاً من الضوضاء في الخلفية، و"ليست موضع شكّ أبداً" إنما جزءاً من الواقع.
لكن، انتباهنا علق في المقابل على "معاداة السامية الجديدة"، وهي ضرب غريب من كراهية اليهود التي تظهر بطرق غير مباشرة، وتبدر عن أشخاص غير متوقّعين، كأنّ تحميل النازيين مسؤولية ارتكاب أفعال معادية السامية من النوع الذي رأيناه يوم أمس أمر واضح ومسلّم به أكثر من اللزوم، فمن المُلفت والمثير أكثر أن نفكّر بأن من تسببوا بالحادث هم من يقدّمون أنفسهم على أنهم مناهضو العنصرية.
في العام 2014، حكم المجلس التأديبي في حزب المحافظين أنّ تنظيم النائب آيدن بورلي حفلة عزوبية حملت موضوع النازية عملٌ "أحمق"، لكن ليس معادياً السامية.
قبل أيام قليلة من الانتخابات البريطانية، أعاد الصحافيون التذكير بمقاطع من رواية بوريس جونسون التي نشرها في العام 2004 تحت عنوان "72 عذراء"، ومنها "ربّما حصل تلاعب بالأرقام وقف وراءه المسؤولون المتنفّذون الذين أداروا محطات التلفزيون، (وكانوا بشكل أساسي من أصول يهودية، وهو الأمر الذي سارع البعض في الإشارة إليه).
ظهور السلوك المعادي السامية بشكل متواصل وسافر وواضح في أعلى مراتب حزب المحافظين لم يؤثر في رأي اليهود بهم. والمبرّر الوحيد الذي أستطيع أن أعطيه لهذا التعنّت الجماعي هو أنّ معاداة الساميّة في حزب المحافظين، والتعصب القومي اليميني الذي ولّده، "أصبحا من المسلّمات"، ولذلك تُهنا في التفاصيل الأصغر. وهذه النظرة خطيرة، كما تبيّن بعد انقضاء الانتخابات.
عبر التركيز الضيّق والمحدّد على منع معاداة السامية من التسلل عبر الباب الخلفي، شرّع لها اليهود البريطانيون الأبواب الأمامية كي تدخل منها. حان الوقت كي يفتح مجتمعي عيونه، ويرى أنه فيما يبدو أنّ المخاطر الجديدة تظهر عند كل مفترق طرق، ما زال عدوّنا الأقدم هو عدوّنا الأكبر.
© The Independent