تستمر وتيرة التدهور في الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان في ظل استمرار الغموض على صعيد تأليف حكومة جديدة، فيما تتواصل التحركات الاعتراضية في الشارع وإن على نطاق أضيق وإنما أكثر استهدافاً لما يصفه المتظاهرون بمراكز الفساد والهدر في مؤسسات الدولة.
تراجع الثقة
وينسحب هذا التدهور استمراراً في تراجع الثقة لدى المتعاملين مع السلطات السياسية الغافلة عن اتخاذ أي خطوات إصلاحية أو علاجية للأزمة المتفاقمة، ومع المؤسسات المصرفية وعلى رأسها السلطات المالية والنقدية، ما يُترجم تهافتاً متواصلاً على شبابيك المصارف للحصول على ما بات يُعرف بـ"كوتا" السحوبات النقدية، التي تتقلص قيمتها أسبوعياً لدى المصارف، وفقاً لحجم السيولة المتوفرة لديها.
وفي حين تحدث حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، في إطلالة تلفزيونية مطولة هي الأولى له عبر الإعلام المحلي، بعد إطلالة قصيرة ومقتضبة عبر الإعلام الأجنبي، ليطمئن اللبنانيين إلى عملتهم وودائعهم في المصارف، لكن تلك التطمينات لم تلقَ الصدى الكبير في أوساط المتعاملين الذين بقوا على تهافتهم، ولم تؤدِ إطلالة سلامة وتطميناته إلى تخفيف مشاعر القلق، وحافظ الطلب على الدولار الأميركي في السوق الموازية، كما لدى المصارف على وتيرته، مسجلاً لدى الصرافين عتبة جديدة وصلت إلى 2550 ليرة للدولار الواحد مقابل السعر الرسمي المحدد من المصرف المركزي بـ 1517 ليرة.
خروج المليارات
وعزا مراقبون عدم ارتياح المواطنين إلى كلام سلامة، خلافاً لكل إطلالاته السابقة، حين ارتبط اسم الحاكم بالاستقرار النقدي على مدى العقدين الماضيين، بأن التطمينات والحقائق التي تحدث عنها لا تعكس الواقع، لا سيما بالنسبة إلى تأكيده على الاستقرار النقدي، في حين أن السوق الموازية التي تركها تتفلّت من أي ضوابط لحماية العملة الوطنية، أسقطت معادلة الاستقرار وأخضعت العملة لحركة العرض والطلب المستجدة في السوق بفعل تراجع الثقة.
وكان سلامة كشف عن تراجع كبير في حجم الودائع فاق العشرة مليارات دولار من القطاع المصرفي، موضحاً أن خمسة مليارات منها ذهبت إلى القروض و2.5 مليار إلى الخارج، داحضاً المعلومات التي تحدثت عن خروج مليارات تراوحت بين 6 و9 إلى الخارج.
مرحلة جديدة
وبينما أكد أن السيولة المتوفرة لدى المصرف المركزي تبلغ 31 مليار دولار، شدّد على أن القيود الموضوعة على حركة التحويلات هدفت إلى عدم التفريط بالاحتياط عبر تحويله إلى الخارج. لكنه في المقابل، لم يخفِ انكشاف المركزي على ديون الدولة عندما أعلن عن حجم المستحقات والبالغة 15 مليار دولار.
وكان لافتاً في كلام سلامة، الذي يفترض أن يرسم خريطة طريق المرحلة المقبلة مالياً ومصرفياً ونقدياً، اعترافه بأن مرحلة جديدة بدأت تتضح معالمها، وعلى القطاع المصرفي التحضر لها والتكيف معها، حتى لا تقفل المصارف أبوابها، وذلك بعدما أصبحت عاطلة عن العمل، ويقتصر عملها على تلبية سحوبات الزبائن.
ولا يرى سلامة مخرجاً من دون مساعدة خارجية، ومن دون تفاهم "حبي بين الدولة والمصارف". وهذا ما يفسره المراقبون بأنه اقتراح واضح باعتماد الاقتطاع من الأموال وإنما من خارج الإطار القانوني، باعتبار أن حاكم المصرف المركزي لا يزال متمسكاً بضرورة عدم اللجوء إلى فرض قانون يحظر التحويلات إلى الخارج أو الاقتطاع، نظراً إلى تأثيره السلبي والخطير على النظام الاقتصادي الحر في لبنان.
المصارف ترد: المسؤولية سياسية!
وإذ بدا واضحاً من كلام الحاكم في إطلالاته وبياناته الأخيرة تحميله جزءًا كبيراً من مسؤولية سوء إدارة الأزمة إلى المصارف، ذهبت الأخيرة أبعد في إلقاء المسؤولية على السلطة السياسية، فعبّرت في بيان لها، هو الأول من نوعه الذي يلامس الأزمة منذ اندلاعها، عن قناعتها بأن السبب يعود إلى انعدام الثقة وسوء الإدارة، لافتةً إلى أن إجراءاتها مؤقتة وهدفها حماية المودعين، من دون أن تشرح الترجمة العملية لهذا الالتزام، وهو الأمر الذي لا يلمسه المودعون، لا بل يلمسون العكس تماماً لجهة الإذلال الذي يتعرضون له لدى مطالبتهم بحقوقهم، فضلاً عن الشعور بلا عدالة الإجراءات التي تتشدد على الصغار منهم، فيما تكون أكثر ليونة مع الكبار.
وفي البيان، أكّدت جمعية المصارف أن "عدم ثقة المواطنين بإدارة الملفات المالية يجب ألاّ ينسحب على عدم ثقة بالمصارف التي لطالما شكّلت حجر الأساس للاقتصاد اللبناني الحر"، مشيرةً إلى أن الحفاظ على هذا الاقتصاد هو مسؤولية وطنية كبرى تقع أولاً وأخيراً على المسؤولين عن إدارة البلاد. وشدّدت على أن "الإجراءات الأخيرة التي اتخذتها مكرهة على السحوبات النقدية والتحويلات إلى الخارج بعد تهافت المودعين إلى شبابيك المصارف بشكل عشوائي، إنما هي مؤقتة وتهدف إلى حماية المودعين والمستثمرين الكبار منهم والصغار". كما أكدت أنها "لن تألو جهداً لإزالة هذه الإجراءات التي سببت انزعاجاً مبرَّراً لدى المواطنين بعد عودة الحياة السياسية إلى طبيعتها".
وكشفت الجمعية عن أنه وبسبب سوء الإدارة والتدهور الاقتصادي، فقد اضطُّرت المصارف وبطلب من مصرف لبنان إلى تعزيز رؤوس أموالها بنسبة 20 في المئة تقريباً، وذلك التزاماً منها بحماية المودعين ولمواجهة أي خفض ائتماني إضافي".
رؤية 2020
كما كشفت عن إعداد رؤية لعام 2020 "تتضمن عدداً من الخطوات التي من شأنها إعادة الثقة التي اهتزت أخيراً بالمصارف بفعل الأزمة السياسية. وهذه الخطوات توازن بين حماية أموال المودعين ومنع القطاع المصرفي من الانهيار، وهي ستعمل على استكمال الإصلاحات كافة التي تساعد في تعزيز فرص الاستثمار وتطوير الاقتصاد، سعياً منها إلى المساهمة في التخفيف عن كاهل المواطنين، كما ستلتزم تنفيذ التعاميم كافة الصادرة عن المصرف المركزي، كما المعايير الدولية، بما يؤمن مزيداً من الدعم الدولي للبنان ويشكل سبباً إضافياً لصمود القطاع المصرفي". وطالبت الجمعية المسؤولين بـ"خطوات فاعلة لترشيد السياسات الحكومية ومكافحة الفساد وتحقيق النمو وتفعيل الإنتاج، ولكنها لم تصل إلى نتيجة ملموسة بسبب الآذان الصماء والمصالح السياسية الضيقة لدى البعض". ودعت إلى تشكيل "حكومة تحظى بثقة المنتفضين، وقادرة على إرساء استقرار سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي وتنفيذ الإصلاحات الضرورية المطلوبة".
تقاذف المسؤوليات... وتسهيل التبييض؟
وإذ يأتي بيان الجمعية غداة تصريحات الحاكم، فقد بات واضحاً تقاذف المسؤوليات بين السلطة السياسية والنقدية والقطاع المصرفي، في وقت تغيب المعالجات الحكومية، ولو في ظل حكومة تصريف الأعمال، بما يترك الأمور على تفلتها. والأمر لا يتوقف عند السوق المالية، بل تنسحب تداعياته على الاستهلاك والاستيراد وحركة التجارة والاستثمار بشكل عام، ما أدى عملياً إلى شل النشاط الاقتصادي وتراجع الاستهلاك في ظل النقص في السيولة وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين.
وتشهد الأسواق في هذا السياق، ارتفاعاً في أسعار السلع والخدمات بعدما أصبح "دولار" السوق هو المتحكم. وقد أنعش ذلك الاقتصاد النقدي، فيما برزت ظاهرة صرف الشيكات المصرفية نقداً للهروب من القيود على التحويلات، إذ يعمد بعض كبار المودعين إلى تهريب أموالهم من المصارف وتلافي القيود المصرفية على التحويلات، إلى سحب الأموال عبر شيكات تُصرف لدى صرافين نقداً مقابل عمولة تصل إلى 30 في المئة. وهذا الواقع الجديد أدى إلى إنعاش السوق السوداء للدولار، وشجّع عمليات تبييض الأموال بعدما سنحت الفرصة لإخراج المال غير النظيف من السوق وتسهيل انخراطه في الدورة الاقتصادية!